الاثنين، 3 ديسمبر 2012

(2) قصة المسيح عليه السلام


(2) قصة المسيح عليه السلام

وكانت رسالة المسيح عليه السلام  خاصة ببني إسرائيل الذين لم يؤمن منهم إلا عدد محدود، ولقد ظل هؤلاء يعتبرون طائفة من طوائف اليهود، وعندما تآمر بعض بني إسرائيل عليه ليقتلوه نجاه الله من مكرهم، ولقد توفي بطريقة طبيعية مثل من خلوا قبله من الرسل من بعد أن أدى رسالته الأساسية وهي تصديق التوراة وتطهيرها من التحريف ومما ألحق بها وإعلام بني إسرائيل بانتهاء دورهم كأمة حاملة للرسالة وأن الأمر قد انتقل إلى أمة أخرى وأنه قد اقترب ظهور الإسلام يأتي به أحمد من الإسماعيليين، ولذلك أيضاً لم يكن مقدراً له أن يعقب كما كان يحيى u حصورا، وكل ذلك كان من مقتضى إنهاء سلالة النبوة من بني إسرائيل.
ولم يستمر في تمسكه برسالة المسيح عليه السلام إلا طائفة قليلة كانت تتداول الإنجيل الصحيح وتعمل به، وتلك هي الطائفة المسماة بالعيسويين، وهي لم تعلن أبدا خروجها عن شريعة موسى عليه السلام، وكان معظم إقامتهم في الكهوف والأماكن الموحشة، وبانقراضهم كجماعة انقرضت رسالة المسيح عليه السلام واختفى الإنجيل الأصلي إلا ما أخفوه منه في أماكن اختبائهم وتنسكهم، ولقد بقي منهم بعض الأفراد المتناثرين في الشام.
ولقد كان ثمة ممن هم من أتباعهم ممن جاءوا بعد أجيال من بعدهم من ظن أنه المسيح في عهد الرومان، وكان له نفس اسم المسيح؛ أي كان اسمه أيضاً عيسى بن مريم، ولقد كان هذا الرجل هو محور كل القصص الذي دون في الأناجيل التي بقيت واعتمدت من بعد، وكان هذا هو الذي صُلِب بعد أن كشف أمره اليهود وأتباع المسيح الحقيقيون، وكان هو في بدايته على الدين الذي أتى به المسيح الأصلي، وكان يظن أنه بالفعل تجسيد جديد للمسيح أو كما يقولون إن روح المسيح قد حلت فيه، وكان يتكلم من هذا المنطلق، ولقد صدرت عنه بالفعل بعض الأمور غير المألوفة كتلك التي تصدر من الزهاد واليوجيين والرهبان والمتصوفة على مدى العصور، ولقد بالغ الناس كعادتهم فيما يتعلق بمثل هذه الأمور وغلوا فيها وضخموها، ولقد زاد ذلك من افتتان الناس به وثقتهم بمزاعمه، ولكن عندما جد الجد تخلى الجميع عنه وتركوه ليواجه مصيره مثلما سيحدث من بعد مع الكثيرين من أمثاله، فهو الذي تلقى الإهانات والضرب والتعذيب وحمل الصليب في طريق الآلام، وهو الذي صُلِب وصرخ على الصليب: "إيلي إيلي لم شبقتني؟"، ولم تثر قصته في وقتها اهتمام أحد خارج بيئته المحلية ولم يسمع بها أو لم يهتم بها أي مؤرخ من المؤرخين المعاصرين للأحداث، فمثل تلك الأحداث لم تكن غريبة على عالم الشرق الأوسط، كما أن ما أظهره من أمور غير معهودة كانت محدودة، ولم تستغرق قصته وقتاً طويلا، والمشكلة أن قصته قد تعرضت لمبالغات شديدة على عادة الشعوب حتى ابتلعت قصة المسيح الأصلي وغطت تماماً عليها. 

(1) قصة المسيح عليه السلام


(1) قصة المسيح عليه السلام
إن قصة المسيح عليه السلام قد حدثت كلها قبل قدوم الرومان بزمن طويل (في نهاية سيطرة الفرس وبداية سيطرة المقدونيين السلوقيين على الشام)، ولقد وُلِد المسيح عليه السلام للسيدة مريم الهارونية (من سلالة لاوي أو ليفي التي منها موسى وهارون عليهما السلام وكانت هي من سلالة هارون) والتي يعني اسمها (أمة الرب)، ولقد كانت منذورة لله عزَّ وجلَّ فلم يكن لأحد أن يتقدم لخطبتها، ولقد تكلم في المهد واستمر من حينها يتكلم إلى أن بلغ مرحلة الكهولة أي حوالي 34 سنة، وخوفاً عليه من بني إسرائيل هاجرت به أمه إلى مصر بصحبة أحد أقاربها المتقدمين في السن ولم يكن خطيباً ولا زوجاً لها بل كان حامياً وراعيا لها، ولا أصل لما يسمى بمسار العائلة المقدسة، وعاشت الأسرة في مصر لمدة طويلة إلى أن بلغ المسيح عليه السلام العشرينات من عمره، ثم عادت الأسرة إلي فلسطين وأُنزل عليه الإنجيل دفعة واحدة، وكان يتكون من جزئين أساسيين؛ أحدهما للتعليم والآخر للهدي، وكان في مجموعه يعادل خمسين صفحة من صفحات القرآن، ومن أراد الإنجيل الصحيح فعليه بالقرآن وخاصة سورة لقمان، وكذلك عليه بما يسمونه بالأحاديث القدسية، وليس صحيحاً أن الإنجيل الحقيقي المنزل لم يكن يتضمن أحكاماً أو تشريعات، ولكن الإنجيل كان يقصد أساساً إلى إعطاء دفعة روحانية للرسالة والشريعة الموسوية وإعلام بني إسرائيل بانتهاء دورهم في التاريخ بعد فشلهم في حمل الرسالة والرقي إلى مستواها وإعلامهم باستخلاف غيرهم والتبشير بالرسالة الخاتمة، وليس ثمة من جدوى في البحث عن أصل الأناجيل المعروفة بما فيها إنجيل برنابا؛ ذلك لأنها كلها منحولة، وهي ليست إلا تجميعاً لتراث شعبي متعلق بسيرة المسيح عليه السلام ظل يتداول شفاهياً ولم يدون إلا بعد حدوث القصة الأصلية بعدة قرون وبعد أن اختلط بقصة من ظن وظنوا معه أنه المسيح الذي قام. 

الجمعة، 9 نوفمبر 2012

الإمامة


الإمامة 


قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }البقرة124، {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ }هود17، {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ }الحجر79، {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً }الإسراء71، {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً }الفرقان74، {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ }يس12، {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ }الأحقاف12.

إن الإمام بصفة عامة هو الكيان الذي جُعِل سبباً لتوحيد الاتجاه لمجموعة من الكيانات على أي مستوى من المستويات، لذلك فهو قد يكون إنساناً وقد يكون كتاباً.
والإمام هو من جُعِل سببا لتوحيد اتجاه أو قبلة أو مقصد الناس على أي مستوى من المستويات، أي من جُعِل سبباً لعمل (Alignment) أو (Coherency) لهم فيكون بمثابة قوة محفزة لاتساقهم وتوحد اتجاهاتهم مما يضاعف من قوتهم، والإمام في الخير يتولى الإمامة بجعلٍ الهي أي وفقاً لسنن إلهية، فهو لا يصل إلي مرتبة كهذه إلا إذا حقق قدراً معلوما من الرقي والسمو علي المستوي الجوهري.
ومن لوازم الإمامة الدينية الحقيقية التفوق القلبي الجوهري والالتزام بنهج لدعم وترسيخ هذا التفوق، والإمامة تفرض نفسها.
والإمامة لا تعني بالضرورة ولاية أمر الجماعة المؤمنة وإنما الإمام هو من استحق التقدم علي الناس في أمر من الأمور لأنه أجدر بأن يقتدي به وأن يتبع فيه، فهو بالنسبة إلي أمر ما المقدم من أولي هذا الأمر.
إنه قد يتمادى إنسان ما في الخير وقد يتمادى في الشر ويكون ذا شخصية مشعة كاريزمية فيستحق بذلك أن يكون إماما في المجال الذي تمادي فيه ورسخ في نفسه، ولقد كان إبراهيم عليه السلام إماما في الخير وكان آل فرعون أئمة في الشر، والإمامة في الخير لا تكون أبدا لظالم، والوصول إلي مرتبة الإمامة يستلزم توفر شروط معينة وسريان نسق خاص من القوانين والسنن، ولقد كانت قريش بحكم طبيعتها وإمكانات أبنائها مؤهلة أكثر من غيرها من القبائل العربية لكي يكون منها أئمتهم في الخير أو في الشر، ولقد أثبت التاريخ ذلك، لذلك كانت الإمامة في القرون الأولي فيهم، فالمروية المنسوبة إلي الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقرر وتبين هذا الأمر الواقع، وليس ثمة علاقة ضرورية بين الإمامة وبين ولاية أمر الناس، فكم من إمام لم يتول أمر أحد من الناس، لذلك فالمروية المعلومة لا تلزم الناس بألا يولوا عليهم إلا قرشيا، ولكن الأمويين هم الذين تعمدوا تحريف معناها ليكسبوا تسلطهم الشرعية المفتقدة، وبالطبع فإن كل مزاعم القرشيين تتناقض مع كل ما أتي به الإسلام ومع سماته، فلا قيمة لها.
إن الكتاب العزيز هو المرجع الأوحد لكل المصطلحات الدينية، وهو لم يستعمل الإمامة بمعنى ولاية الأمر، ولكن الإمامة الحقيقية في مجال الخير هي أن يصل الإنسان إلى مرتبة فائقة من السمو والرقي على المستوى الجوهري الباطني بحيث يكون من الطبيعي والبديهي أن يأتم الناس به في أمور الدين والهدى والرشاد، وتلك الإمامة بحكم طبيعتها وبحكم مقتضيات الأمور لا يمكن أن تحتكرها قبيلة معينة لنفسها ولا شعب مختار لنفسه، ولقد بين الكتاب مراراً وتكرارا أن الناس يتفاضلون بالتقوى والعمل الصالح ونفع الناس وأنهم سواسية وخلقوا من نفس واحدة، فالإمامة لمن وفى بشروطها وكان أهلا لها ولم يكن من الظالمين، أما الملك فإن الله تعالى يؤتيه من يشاء أي وفق قوانين وسنن معلومة لديه، أما ولاية الأمر فهي كما تشرح نفسها بتعريفها هي لمن هو أولى وأجدر بها، والأمر لا يعني بالضرورة الحكم وإنما هو أعم من ذلك بكثير، فهو يعبر عن كل عمل أو علم أو نشاط إنساني ممكن، ولقد عين الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للناس أئمة من كافة القبائل ولم يقصر الإمامة أبدا على القرشيين، وكذلك كان الأمر في الإمارة فلقد كان يولى الأصلح والأكفأ ومن يتوسم فيه الخير والاستعداد ليكون قائدا، ولقد ولى أسامة بن زيد وكان شاباً الإمارة على جيش كان فيه الصديق والفاروق، وعندما احتج الحزب القرشي أنبهم بشدة وأعلن عليهم أنه خليق بالإمارة كما كان أبوه خليقاً بها، وإذا كان قد اختص بعض القرشيين ببعض المنح والعطايا فلقد كان لذلك أسبابه الخاصة التي أعلنها وبيَّنها وكلها كانت لخدمة أغراض الدعوة، إن أفعاله الثابتة تلك لهي أدل على سنته الحقيقية من المرويات التي لفقت من بعد أو حرفت لتضفي الشرعية المفتقدة على حكم الأمويين والعباسيين وتسلطهم، ولقد كانت سنته في تعيين الأمراء هي أول ما نقضه المسلمون إذ سرعان ما استأثر الحزب القرشي بالأمر من دون الناس، ولم يتخذوا من الأنصار وزراء كما تعهدوا بذلك في السقيفة، وأسندت قيادة الجيوش وولاية الأمور في البلدان المفتوحة إلى رجال الحزب القرشي أو من مالأهم، وكان كثير منهم من الطلقاء أو حديثي العهد بالإسلام أو ممن لم يتلقوا التربية والتزكية اللازمة على يد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان نقض سنته في ولاية الأمر من أكبر أسباب الفتنة من بعد.
إنه لا ينبغي الخلط كما تعمد السلف أن يفعلوا بين الإمامة في الخير وبين ولاية الأمر، فالإمامة منوطة بالتقوى والتفوق الجوهري الباطني وسمو الملكات الإنسانية الحقيقية والوجاهة عند الله تعالي، أما ولاية الأمر فهي منوطة بالمقدرة أو الكفاءة أو التمكن من الأمر المعنى، لذلك فللإمامة رجالها ولولاية الأمر رجالها، لذلك فإن تفوق إنسانٍ ما في أمر محدد كالطب أو الهندسة مثلا لا يجعله بالضرورة إماما، فالإمامة هي نوع من الوجاهة أو الرياسة الدينية المستحقة، وهي تفرض نفسها علي الناس بل وعلي المتصف بها، وقد تجتمع مستلزمات الأمرين في شخص واحد بمعنى أن يكون الإمام متفوقاً في أحد المجالات الأخرى ومتمكنا منها مثلا.
وبالنسبة إلي أهل القرن الأول كان من الطبيعي أن يكون الأئمة من قريش، فلقد كان منهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ نفسه وكان منهم أكابر السابقين الأولين من المهاجرين، وكانت قريش تتفوق بالفعل على باقي العرب والأعراب في المستوى العام وكان باقي العرب والأعراب يسلمون لهم بذلك، ولكن هذا لا يقتضي ولا يستلزم استئثار قريش بالقيام بالأمر ولا استبعادهم السابقين الأولين من الأنصار منه؛ ذلك لأن الإمامة شيء والقيام بأمور الناس شيء آخر.

المراجع (كتب المؤلف أ. د. حسني أحمد):
1-           الأسماء الحسنى والسبع المثاني، 2002.
2-           الأسماء الحسنى في القرآن العظيم (قراءة جديدة)، دار النهار،  2002.
3-           الإحصاء العلمي للأسماء الحسني، دار النهار،  2003.
4-            المقاصد العظمي في القرآن الكريم، دار الأستاذ، 2004.
5-            نظرات جديدة في الحقائق والأصول، 2005.
6-            نظرات جديدة في المصطلحات، 2005.
7-            نظرات جديدة في الآيات، 2006.
8-            من هدي الآيات، 2006.
9-            المقصد الديني الأول، 2006.
10-       نظرات في السنن والمرويات، 2006.
11-       الأسس النظرية لدين الحق، 2006.
12-       نظرات إضافية في المصطلحات، 2007.
13-       نظرات عامة جديدة، 2007.
14-       نظرات في التاريخ، 2008.

وسائل المعرفـة


إن الحواس هي وسائل تلقي التأثيرات من الكائنات، وكل حاسة تتلقى من التأثيرات ما يقع في مجالها، وتلك التأثيرات تنتقل إلى الدماغ الذي هو الآلة المادية للقلب الإنساني حيث تتم معالجتها، ويقوم القلب باستيعابها وتفسيرها وفقاً لما هو مبرمج عليه ووفقا لما لديه من معلومات مسبقة، وهذا القلب قابل ايضاً لأن يحمل ببرامج إضافية ولأن يكتسب باستمرار معلومات إضافية وذلك بتأثير البيئة الثقافية وما تم اكتسابه من معارف وخبرات جديدة.
أما الكتب وحاويات البيانات والنصوص الأخرى فهي لا تتحول بالنسبة لإنسان ما إلى مصدر حقيقي للمعلومات إلا بناءً على موقفه هو منها، ولملكات الإنسان دخل كبير في تحديد هذا الموقف، وهذا الموقف هو من مجالات الإرادة الإنسانية الحرة، ولا يمكن لذلك تغيير طبيعة الأمور، فالدنيا دار ابتلاء، ومصير كل إنسان بمقتضي الحقيقة الإنسانية معلق باختياراته.
وللكيان الإنساني الجوهري حواسه الخاصة التي تشير كل حاسة ظاهرة إلى حاسة منها، والإنسان عادة ما يهمل أمر مثل هذه الحواس، وممارسة أركان الدين الحقيقية هي الوسيلة للتنمية الآمنة أو لتزكية مثل هذه الحواس حتى يتمكن الإنسان من الانتفاع بها في الدار الآخرة، أما الانتفاع بتنميتها في الدنيا فليس مطلوباً بذاته، ومن جعل تنمية مثل هذه الحواس أكبر همه ومبلغ علمه قد يستدرج به ويَضل ويُضل غيره، ذلك لأنه لن يتلقى من عالم الخيال إلا ما هو متوافق معه وما هو على استعداد له.

السبت، 20 أكتوبر 2012

وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ {6} العنكبوت


وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ {6}
إن من له الوجود المطلق والكينونة المطلقة والأسماء الحسنى هو الغني المطلق عمن هم مجرد إعادة صياغة للعدم المطلق؛ من هم مجرد صور على صفحة العدم لو شاء لأهلكهم جميعا؛ من لا يملكون من حيث أنفسهم إلا نقصهم ومقتضياته، لذلك فكل جهاد يبذله الإنسان إنما تعود ثمرته عليه.
-------
إن الجهاد مطلقاً هو ركن من أركان الدين، والفائدة من القيام بأي ركن إنما تعود على الإنسان نفسه، فلن يبلغ مخلوق أبداً القدرة على أن ينفع ربه الذي هو الغنيّ المطلق، لذلك فعلى الإنسان ألا يُدِلّ على ربه وألا يمنّ عليه بطاعته، بل إن قيام الإنسان بركن ديني يستوجب من الإنسان مزيداً من الشكر لربه الذي يمكنه أن يحول بين المرء وقلبه، وهو لا يقبل الطاعة إلا ممن تواضع بها لعظمته ولم يتطاول بها على أحد ولم يرائي الناس بها، فويل لمن لا يؤدون شعائر الدين إلا ليستمدوا منها الدافع والمبرر للتطاول على الآخرين، فوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَسبَتْ أَيْدِيهِمْ، وويل لهم مما يقترفون.
=======

الاثنين، 20 أغسطس 2012

التـوكـل


التوكل يتضمن إسناد مهام أو أعمال إلى الموكل ليقوم بها نيابة عن موكله وهو يستند إلى ثقة الموكل بالموكل إليه، والتوكل علي الله تعالي مرتبط بحسن الظن به وبالثقة به، فالإنسان مطالب بأن يثق بربه، ومن ذلك أن يعلم أنه قد نبأه في كتابه بكل ما يلزمه من معلومات ومعارف وأوامر وقوانين وسنن وكل ما هو كفيل بتحقيق السعادة له في الدنيا والآخرة، وكذلك حذره مما يمكن أن يعرضه للهلاك، فالاعتقاد بأن ثمة أمورا كبري لم يتضمنها الكتاب أو يبينها يندرج تحت سوء الظن بالله تعالي، ومن ذلك اقتراف المعاصي؛ فالعاصي المصر علي معصيته يظن أن ربه يريد حرمانه من الاستمتاع ومن السعادة أو هو ينكر وجود ربه أصلا أو لا يقيم له وزنا.
------------
إن التوكل على الله تعالى وتفويض الأمر إليه والفرار إليه والاعتماد علي حوله وقوته من تفاصيل هذا الركن، وهذه صفات تقتضى أفعالا وكلها من لوازم القيام بحقوق الأسماء الحسني، فالتوكل من تفاصيل ولوازم ركن الإيمان بالله تعالي والقيام بمقتضياته.
------------
إن التوكل علي الله أمر ديني واجب وفرض لازم وهو ركن فرعي من أركان الدين، وهو من مقتضيات ولوازم الإيمان بالإله الذي له الأسماء الحسني ومن مقتضيات القيام بحقوق تلك الأسماء ومن الصفات التي أعلن الله تعالى بكل وضوح أنه يحبها ويحب المتحققين بها، وهو بذلك من لوازم إقامة صلة وثيقة بالله تعالى، ولقد وردت الأوامر الخاصة به في الكتاب بصيغ أقوي وأكثر عددا من تلك الخاصة بالحج والصيام، وهذا الاصطلاح يطلق على أمرين :

1-          الحالة القلبية (الوجدانية العرفانية الذهنية) التي تعنى وتتضمن التحقق بالمعرفة اللازمة بالله تعالى وبأسمائه الحسنى وما اقتضته من القوانين والسنن والإيمان واليقين اللازم لكل ذلك، فيؤمن الإنسان بقدرة الله تعالى المطلقة وعلمه الشامل وإحاطته بالأمور ويوقن بأنه هو الذي يدبر الأمر ويفصِّل الآيات ويسير أمور الكائنات وأنه ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، فتلك الحالة تتضمن الثقة التامة بالله تعالي وتستلزم أن يفوض الإنسان كل أموره إليه وأن يؤمن بأنه معه يسمع ويرى ويراقب ويرتب الآثار على النتائج ويسير الأمر وفق قوانينه وسننه وأنه لا تبديل ولا تحويل لكلماته.
2-          جماع الآليات والوسائل التي يمكن أن تؤدى إلى اكتساب تلك الحالة الوجدانية، ولقد فوَّض الله تعالي أمرها إلي الناس لأنها تختلف باختلاف الأشخاص والعصور بل وتختلف باختلاف أحوال نفس الشخص، ومن الآليات الممكنة تكرار ذكر العبارات التي هي بمثابة استجابة للأوامر الإلهية الخاصة بالتوكل، فإذا قال الله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً} فيردد الإنسان سرا وجهرا العبارة الآتية: (توكلت عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً)، وإذا قال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} يردد الإنسان: (تَوَكَّلْت عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) مع الحضور القلبي والتركيز واستحضار كافة المعاني اللازمة لهذا القول وأن يتأدب الإنسان بالأدب اللازم لذلك، ولابد بالطبع من المداومة على هذا العمل كما يداوم الإنسان على تناول الطعام مثلا حتى يزود الإنسان كافة كياناته بما يلزمها من طاقات.

واكتساب صفة أو إحساس أو حالة وجدانية يلزم الإنسان بالعمل وفق مقتضياتها، وهذا يؤدي إلي ترسيخ تلك الصفة.

السبت، 28 يوليو 2012

سمات وشئون وأفعال إلهية (I)


إن كل ما نسب إلى الله عز وجل من أفعال أو سمات إنما ينسب إليه علي ما يليق بذاته أخذاً في الاعتبار أن القرآن هو كتاب عربي مبين، وكذلك الأمر بخصوص العبارات القرآنية التي ورد فيها اسمه مقترنا بظرف زمان أو مكان، والمسلم ملزم بأن يؤمن بكل ما ورد منسوباً إليه سبحانه وعليه أن يفقهه علي ضوء الأسس العامة وهي أنه ليس ثمة اختلاف أو تناقض في الكتاب العزيز وأن هذا القرآن قد أنزل وجعل قرآنا عربيا، فهو يستعمل الأساليب العربية الفنية والبلاغية والمجازية، ولقد نزه الله سبحانه نفسه عما يصفون وليس عن السمات التي نسبها إلى نفسه، ذلك لأن حقيقة الاسم هي السمة التي يشير إليها، فالاسم هو الذات من حيث سمة من لوازم حقيقتها، فهو سبحانه منزه عن تصوراتهم وليس عن سماته الحسنى، ذلك لأن له الأسماء الحسني، لذلك فنسبة الظرفية الزمانية أو المكانية إليه ليست كنسبتها إلى غيره، كما أنه منزه عن الجسمية ولوازمها من التقيد المكاني فلقد كان ولا زمان ولا مكان، فله الإحاطة بما قيد به مخلوقاته من الأطر الزمكانية، فلا يجوز الحديث عما كان قبل خلق الأكوان من مراتب، ولكل مرتبة قبل الزمان الإحاطة بالزمان، والمسلم ليس ملزما بمثل هذا التعمق وإنما هو ملزم بالمعاني الظاهرة البينة لما جاء في الكتاب العزيز إذا ما ألزم نفسه بأسس التعامل مع هذا الكتاب وما ورد فيه.
--------------------
إن وجود حقائق علمية وسمعية وبصرية وكذلك وجود حواس وملكات لدي الكائنات تلائم تلك الحقائق إنما يستند إلى سمات إلهية ربانية فما هو موجود هنا هو من آثار ما هو هنالك، فلابد من استناد الحقائق الخلقية إلى حقائق أمرية، ولابد من استناد الكل إلي حقائق إلهية، لذلك يمكن اعتبار ما هو هنا أمثال مضروبة لما هو هنالك، ولولا تلك الأمثال التي ضربها بنفسه للناس لما عرفوا عنه شيئا، فعلي المسلم الاكتفاء بالأمثال التي ضربها لنفسه لا التي ضربها الناس له بل إن المسلم مأمور بألا يضرب له الأمثال وبأن يعلم أنه ليس كمثله شيء وأن له المثل الأعلى في السماوات والأرض.  
--------------------
إن الله سبحانه هو الحق من حيث ثباته لنفسه علي ما هو عليه ومن حيث وجوب كينونته وطلاقتها الذاتية ومن حيث تحقق تجلياته المفصلة لسماته التي هي لوازم حسنه المطلق ومن حيث أن كل ما هو سواه إنما يتحقق به ومن حيث أنه اقتضى اتساق القوانين والسنن التي هي الحق المحض فلا تبديل لها ولا تحويل ومن حيث أن كلامه هو الصدق المطلق.
--------------------
إن كل كائن متحقق بحيث تصدر عنه آثار خاصة به تكشف عن حقيقته، ووجود الشيء (أو كينونته) هو ذلك الأمر المشترك بين الكائنات والذي بتوفره يمكن أن تصدر تلك الآثار وهي القابلية والفاعلية……إلخ، والإمكان الذهني الذي لدى الإنسان والذي به يمكن أن يميز بين الماهية أو الصورة الذهنية من ناحية وبين الكائن المتحقق الذي له تلك الماهية من ناحية أخري إنما يستند إلى أصل إلهي، والوجود من حيث هو وجود هو أمر واحد كما تكون الشجاعة من حيث هي شجاعة أمر واحد، ولكن هذا لا يعني أن الوجود بهذا المعني هو أمر مشترك بين الخالق وخلقه أو أنه هو عين الوجود أو الوجود من حيث هو وجود، فإن هذا القول لا يعني شيئا وليست له جدوى وينطوي علي جهل بحقيقة الخالق، ووحدة مفهوم الوجود هي كوحدة مفهوم السمع مثلا فهي أمر بديهي ولكنه لا يقدم دليلاً علي أنه سبحانه عين وجود الأشياء أو أن وجودها وجوده، والحق هو أن وجودها إنما هو به وله؛ فهو قائم به مقدر به ومخلوق له منفعل به، فوجودها لا يزاحم وجوده ولا يقترن معه في نظم واحد ولا في عبارة واحدة، وما يجب العلم به هو أنه سبحانه كائن حقيقي له الأسماء الحسني ولكن كينونته ستظل دائما فوق مستوي تصور أي كائن مهما ارتقي واتسع إدراكه، ولكنه رحمة بعباده يتجلى لهم من حيثيات معينة ويتقرب إليهم وإلا لما أدركوا عنه شيئا، فلابد من التدلي ليكون الدنو.
--------------------
إن كل معني من حيث هو معني هو أمر واحد، وهذا لا يستلزم وحدة الكائنات أو اتحادها ولا يعطي الإنسان الحق في أن يزعم أن سمات الخالق كصفات المخلوق، فليس من حق الإنسان أن يتجاوز بما لديه من مفاهيم وتصورات قدرها ولكن عليه أن ينزه خالقه عن تصوراته وأن يعلم أن صفاته هي مقتضيات سمات خالقه وأنها من لوازم تفصيلها وإظهارها.
--------------------
إن المعاني الأولية كالحياة والعلم والإرادة هي أبسط المعاني وبالتالي لا يمكن تعريفها تعريفاً دقيقاً وإنما يمكن تفصيلها وبيان مقتضياتها ولوازمها وآثارها، أما إدراكها فهو أمر ذوقي قلبي ليس بحاجة إلى إثبات، ولكن يجب دائما التمييز بين السمة أو المعني من ناحية وبين المجال اللازم للظهور والتفصيل من ناحية أخري خاصة وأن نفس اللفظ يطلق عليهما في اللغة العربية.
--------------------
إن كل مقتضيات سمات الله وكل ما هو مترتب عليها هو يمارسها من حيث كل عالم من أزل هذا العالم إلى أبده فهو يخلق ويقدر ويدبر الأمر ويفصل الآيات ويبدع ويظهر قدراته وإمكاناته، ولقد كان من أسباب وجود الزمان وتقديره ضيق العوالم المشهودة عن استيعاب ما لا يتناهى من إبداعاته التي يترتب بعضها علي البعض.
--------------------

لقد ظن البعض أن من الخطأ القول بأن أفعال الله سبحانه معللة بالحكمة وإلا لكانت الحكمة حاكمة عليه، وكان عليهم أن ينفوا أيضا أن أفعاله معللة بالرحمة أو بالرأفة…..إلخ، فقاسوه بذلك علي خلقه وفصلوا بينه وبين سماته التي هي لوازم ماهيته، وعاملوا سماته علي أنها كيانات خارجية مستقلة عنه، ويتضمن قولهم الزعم بأن أفعاله عشوائية، ولهؤلاء يجب القول بأن من يفعل ما تقتضيه سماته الذاتية التي هي لوازم كنهه الذاتي لا يكون مجبرا أو مكرها علي فعله أو محكوما عليه وإنما المحكوم عليه هو من يُحمَل علي فعل تأباه طبيعته وسماته، لذلك فظنهم خاطئ وقضيتهم وهمية وباطلة، ولكن مع ذلك لا يجوز نسبة العلة والتعليل إليه، بل يجب القول بأن أفعاله تتضمن حكما ومقاصد، وهي إنما تتم بسريان سننه التي هي مقتضيات أسمائه وسماته ومن بينها الحكمة، والذين يحاولون أن يجردوا أفعاله من سماته يجعلونها بذلك تتم بمقتضى العشوائية المحض؛ فذلك هو ظنهم بربهم.

--------------------

الجمعة، 27 يوليو 2012

من أركان الإسلام: الإيمان بكتاب الله العزيز والعمل بمقتضى هذا الإيمان والقيام بحقوق هذا الكتاب


هذا الركن يقتضي القيام بحقوق الكتاب العزيز بالإيمان به وتلاوة آياته وتعلمه وتعلم ما يتضمنه من الحكمة وقراءته وتذكره وتدبر آياته وتزكية النفس به والعمل بمقتضى ما يتضمنه.
وهذا الركن هو ركن ركين من أركان الدين، ولقد قدم الله تعالي مقتضياته وتفاصيله علي ما تواتر أنه من الأركان (مثل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة) كلما ذكر معها.
إن القيام بحقوق القرآن يقتضي الإيمان به وتلاوة آياته وترتيله وتعلمه وتعلم ما يتضمنه من الحكمة وقراءته وتذكره وتدبر آياته وتزكية النفس به وتعظيم قدره واتخاذه إماما والعمل بمقتضى ما يتضمنه، كما يقتضي اتخاذه المرجع الأوحد في كل أمور الدين الكبرى والمرجع الرئيس في الأمور الثانوية، وهذا بدوره يقتضي أن يستمد كل مرجع شرعيته ومصداقيته من القرآن وحده.
------------
إن المسلم ملزم بالإيمان بالقرآن العظيم وبأنه كلام الله وهديه الذي أنزله وفصَّله وبينه للعالمين، وهو ملزم بالإيمان بأن الله قد حفظ كتابه من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان وبالإيمان بأن القرآن هو َكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، فالقرآن هو الكتاب الوحيد الذي يستمد براهينه من ذاته ويبين نفسه بنفسه ويقيم الحجج على صحة ما فيه بآياته، أما الكتب السابقة فقد كانت تستمد مصداقيتها وحجيتها مما يقدمه النبي من آيات مادية خارجية أي من أمور خارقة، أما سائر المصادر أو الأصول الأخرى كما يسمونها فإنها لا تستمد مصداقيتها فيما يتعلق بالأمور الدينية إلا منه وهو الحاكم والمهيمن عليها. إن التفقه في القرآن وتدبره ليس مقصوراً على المتكسبين بالدين ولكنه ركن ديني ملزم لكل مسلم، ولو عمل المسلمون على القيام به حق القيام لما انهاروا ولما تفرقوا شيعا ولاختفى الجهل.
------------
من لوازم وتفاصيل ركن الإيمان بالقرآن والقيام بحقوقه: تلاوته-قراءته-الإنصات لقراءته-إعمال كافة الملكات القلبية فيه ومن ذلك تدبره والتفكر فيه-اتخاذه المرجع الأوحد في كافة الأمور الدينية الكبرى والمرجع الرئيس في الأمور الثانوية-اتباعه وحده وعدم اتباع أولياء من دونه-عدم جعله عضين بل الأخذ به كله-اختيار ما اختار الله فيه-عدم اتباع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة-ألا يجد الإنسان في صدره حرج منه...، قال تعالى:
{وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً}الكهف27، {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}العنكبوت45، {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }البقرة121، {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ }فاطر29، {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}، {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} المزمل 20، {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}ص29، {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ}المؤمنون68، {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}النساء82، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}محمد24، {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ }الأنعام25، {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون }التوبة127، {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً }الإسراء46، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً }الكهف57، {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }الأنعام97، {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }الأنعام105، {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }التوبة11، {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }فصلت3، {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِين} (الأعراف: 2)، {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (الفرقان: 30)، {وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ{170}} (الأعراف)، إن الآيات تبين كيف أن تفاصيل هذا الركن مقدمة على إقامة الصلاة.
------------
قال الله سبحانه وتعالى:  {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ }هود1، فكل آية من آيات الكتاب كانت أصلا كياناً أمرياً محكما وكانت بذلك أيضاً في غاية الإتقان، ثم فصِّلت بحيث يمكن أن يدركها الإنسان، وهذا التفصيل يأخذ زمنه المعلوم، فهو يتم شيئاً فشيئا بعد التفصيل الأول الذي ترتب عليه أو الذي كان من لوازم الإنزال، والإحكام والتفصيل يتم بفعل الاسم الإلهي الحكيم الخبير، ولقد كان الكتاب محكما، وكذلك كان إنزاله الأول، ثم توالى تفصيله.
------------
إنه إذا كانت المشنا أو المثنا تثني التوراة فإن الكتاب العزيز يثني نفسه بنفسه وبيانه يكون منه وبه، قال سبحانه وتعالى:  {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}الزمر23، فالكتاب متشابه وهو مثاني، فطبيعته تلك هي من سماته الذاتية؛ فلا يثنِّـيه غيره، وهو متشابه لكونه صالحاً لكل زمان ومكان؛ أي لطبيعته العالمية؛ أي لكونه للناس كافة.
------------
إن هذا القرآن قد أنزل بعلم الله، فهو بذلك من مقتضيات سمة العلم الإلهية، وما يتضمنه هو أيضاً من العلم الإلهي، فمصطلح العلم يطلق على السمة كما يطلق على مجالها؛ فهو بذلك يتضمن المعلومات اللازمة لكي تتحقق لكل كيان إنساني مقاصد الدين العظمى الخاصة به.
------------
إنه بإدمان قراءة وتدبر القرآن وإعمال ملكات القلب فيه يترقى كيان الإنسان الجوهري ويبرمج للعمل وفق المنهج والمنطق القرآني ويجد في القرآن البينات التي يمكن الاستناد إليها والانطلاق على هديها.
------------
إن على من يريد التعامل مع القرآن أن يدرك أنه كتاب متشابه وأنه يتضمن آيات متشابهات، وهذا يتضمن أن هذه الآيات تتحدث عن أمور غيبية؛ أي خارج نطاق الخبرة البشرية وفوق كل المدارك والتصورات البشرية، كما يتضمن أنه متسق اتساقاً ذاتياً مطلقاً؛ فآياته تتعاضد وتتكامل وتتآزر ويبيِّن بعضها بعضا، فالقرآن مبين ومبيِّن وتبيان لكل شيء، فيجب أن يبحث الإنسان عن تأويل ما غمض عليه فيه نفسه، فمن آمن بذلك وعمل بمقتضاه سيهتدي، أما من سلك سبيل التربص بالقرآن ومحاولة تلمس أي اختلافات فيه فسيكون عليه عمى وسيضل، قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ }فصلت44.
------------
إنه من لوازم تحقيق مقاصد الدين أن يقرأ الإنسان آيات القرآن بحيث يستخرج منها ما يجب أن يتحلى به أو يتطهر منه من الصفات وما يجب عليه الالتزام به أو اجتنابه من الأفعال، وعليه في سبيل ذلك أن يعلم أن القول بالنسخ بالمعني الذي اصطلحوا عليه -والذي يتضمن أن ثمة آيات قد انتهي حكمها أو بطل العمل بها- هو من الكفر البواح ومن الظن السيئ برب العالمين ومن الجهل بقدره العظيم؛ فالقول بالنسخ هو من كبائر الإثم المضادة لهذا الركن، وإني أتحدى أعداء القرآن وعبيد المذاهب وشياطين الإنس والجن أن يأتوا بآية قرآنية تكون موجودة في المصحف ومنسوخة في الوقت ذاته!!!
------------
إن تشابه آيات الكتاب قد ترتب عليه أن كثيرا من الأحكام ورد فيها عدة آيات، ولكل آية دلالة للحكم لم ترد في الآيات الأخرى، فالجمع بين الآيات يؤدي إلي استخراج مفهوم عام وتصور شامل لتفاصيل المسألة المراد فقهها، ولقد اقتضى التشابه أن الآية الواحدة قد تتضمن أحكاماً عديدة وأوامر متنوعة وكلمات (معلومات) متعددة، وكان ذلك مثلاً لبيان أن حكماً معيناً يستند إلى اسم معين وغير ذلك من أسرار القرآن، فالقرآن كتاب متعبد بتلاوته، وهو كتاب يؤدي إعمال الملكات فيه وقراءته وتدبره إلي رقي الكيان الجوهري الإنساني.
إنه لمعرفة حكم القرآن في أمر ما يجب أن يؤخذ في الاعتبار كل الآيات التي تذكر شيئاً عن هذا الأمر مع العلم بأنه ليس في القرآن آيات منسوخة، فلكل آية قرآنية حجيتها ومصاقيتها، كما يجب دائما النظر في السياق الذي وردت فيه الآية وأن يؤخذ في الاعتبار معاني المصطلحات القرآنية التي سبق معرفتها.
------------
يتضمن هذا الركن الإيمان بالقرآن وتلاوة آياته وتعلمه وتعلم ما يتضمنه من الحكمة وقراءته وتذكره وتدبر آياته، والإيمان هو التصديق الإيجابي بكل ما أورده الكتاب من معلومات؛ فهو الذي يدفع الإنسان إلي العمل وفق مقتضيات ما آمن به، والعلوم الطبيعية من وسائل زيادة ثـقة الإنسان وإيمانه بما أورده الكتاب العزيز من المعلومات لأنه لا يمكن أن يكون ثمة تناقض أو اختلاف بين آيات الكتاب المقروء وبين آيات الكتاب المشهود، والعلوم الطبيعية تساعد الإنسان علي فقه أفضل لآيات الكتاب وتساعد علي تطهير تفسيره مما دسه وأورده الأسلاف من آراء وخرافات.
------------
إن معظم الناس لم يعرفوا قدر ربهم بما يكفي لسعادتهم ونجاتهم وما قدروا خطورة أن يكلمهم عن طريق الرسالة ولا أن ينزل عليهم كتاباً يتضمن ما يريد منهم أن يعرفوه وأن يلتزموا به وأن يعملوا بمقتضاه، لقد تحالفت قوى لا حصر لها لدفع الناس إلى اتخاذ كتاب ربهم مهجورا وذلك بتضخيم شأن كل ما هو من دونه وبتحريف معاني ودلالات المصطلحات وباستحداث وافتعال مصطلحات وبتقديم الأمور الذاتية والشخصية علي الأمور الموضوعية والحقانية.
------------
إن البيان هو عكس الكتمان، فتبيين القرآن يكون بإظهاره كله وتلاوته وقراءته عليهم أما التفسير أو التأويل فهي أمور أخرى، ويجب العلم بأن القرآن ككل هو كتاب متشابه وهو يتضمن إلي جانب آياته المحكمات آيات متشابهات، وهو مع ذلك ليس بكتاب أحاجي وألغاز وليس بكتاب مشفر، ولكنه كتاب عربي مبين أنزل على أمة أمية لا عهد لها بفلسفات ولا بتقاليد كهنوتية عريقة؛ ولقد نزل بلسانهم آخذاً في الاعتبار أحوالهم، ولقد يسره الله للذكر ولكي يفقه الناس ما فيه ويعملوا بمقتضاه.
------------
إنه ليس لدى البشر من الألفاظ ما يصلح لأن يعبر عما ليس لديهم خبرة به فضلاً عن كل الأذواق والخبرات والأحاسيس والمعاني التي تتوارد عليهم في حياتهم، لذلك كان لابد من استخدام الأساليب اللغوية والبلاغية المتنوعة ولابد من استخدام اللفظ الواحد للتعبير عن أكثر من معني يتبين من السياق اللغوي، وذلك مما يؤدي إلي ما يعرف بالتشابه، ولذلك يكون أول ما يبادر إليه ذهن الإنسان إذا سمع عبارة متشابهة أن يبحث عن تأويلها؛ أي عن المدلول الحقيقي لها، والذي هو أصلها ومآلها.
------------
إن مصطلح التأويل في القرآن إرجاع الأمر إلي أصله الذي ينطبق في كثير من الأحيان مع مآله (إذا كان الأمر ذا طبيعة حلقية) ويعني إدراك المعني الخفي أو إدراك الكيان الأمري الغيبي المصاحب لكيان خلقي ويعنى تحقق أمر لما يتحقق وتعينه، وليست الرؤى المنامية فقط هي التي بحاجة إلى تأويل ولكن الوقائع الخارجية أيضا.
أما التأويل في اصطلاح الناس فيعني تحريف معاني النصوص القرآنية أو صرف الآيات عن معانيها الحقيقية الجادة في سبيل إلزام الناس بالظنون والأهواء أو ما ينتج عن محاولة لي عنق الآيات لتدعيم الآراء المذهبية، وأشد المذاهب إمعاناً في التأويل الضال هم الشيعة ومن تأثر بهم من أصحاب المذاهب الباطنية وأشدها عزوفاً عنه هم السلفية.
------------
إن معظم نصوص القرآن بينة بذاتها لكل من يجيد اللسان العربي إجادة معقولة، ومعظمها لم يرد بشأنها مرويات من التي أقحموها على الدين بحجة تبيين القرآن ثم استخدموها للقضاء عليه، ورغم إجماع جمهورهم علي ظنية ثبوت معظم المرويات فإنهم جعلوا لها الحكم على نصوص القرآن التي هي قطعية الثبوت، وكل هذا من تلاعب الشيطان بهم.
إن النص القرآني يختلف كليا عن النصوص الأدبية البشرية في كونه يحمل تشريعات وأحكاما وأوامر ونواهي ومعلومات عن عالم الغيب بمختلف طبقاته ودرجاته، وهو مصاغ ليؤدي مهام محددة منها أن يخرج الناس من الظلمات إلي النور وأن يزكي نفوس من آمن به وأعمل ملكاته القلبية فيه.

الأربعاء، 25 يوليو 2012

من الأسماء الحسنى: الْوَهَّـابُ


الْوَهَّـابُ

قال تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ }آل عمران8، {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ }ص35،  فهذا الاسم من الأسماء الحسنى، وهو من أسماء النسقين الأول والثاني، والوهاب هو المعطى الذي لا ينتظر من عباده جزاءاً ولا عوضا، والذي يتسع مجال عطائه كما يليق بذاته، والعبد إذ يتوجه إلى ربه من حيث هو الوهاب يعلم أنه لم يقدم ما يجعله مستحقا لما يطلبه، والهبات قد تكون مادية أو معنوية، ولديه سبحانه خزائنها كلها إذ هو أصل كل الكمالات ومصدرها كما أنه هو الذي أبدع وقدر وخلق كل العطايا المادية والمعنوية.
فالوهاب هو الذي يهب من هم دونه العطايا والهبات والنعم المادية والمعنوية ؛ الخلقية والأمرية، وذلك دون انتظار عوض منهم ودون توقع شيء مما لديهم إذ ليس لديهم إلا عدمهم الأصلي ونقصهم الذاتي، وهو سبحانه يهب الرحمة وهي أمر معنوي لطيف كما يعطي الملك وهو التحكم في كائنات مادية كثيفة، فهو سبحانه أصل كل كمال وكل ما يكون به الكمال، وهو يهب دون تكلف أو تعمل أو تصنُّع فهباته مفاضة دائمة منه ولكن لا يتلقاها إلا من استعد لها ومن تزكى حتى أصبح أهلا لقبولها.
وكرمز فإن الواو إشارة إلي كل ما له علاقة بالكيان محل الوهب كالإنسان مثلا والتي يمكن له الانتفاع بها، والهاء إشارة إلي أنها أصلا من عالم الغيب وهي إشارة إلي أصل ومصدر كل شيء وأنها من مظاهر الرحمة اللانهائية بالإنسان، والباء إشارة إلي أنها به سبحانه تنتقل من غيب إلي شهادة ومن باطن إلي ظاهر وإلي أن منه كان ابتداؤها.

المراجع (كتب المؤلف أ. د. حسني أحمد المتعافي):
1-           الأسماء الحسنى والسبع المثاني، 2002.
2-           الأسماء الحسنى في القرآن العظيم (قراءة جديدة)، دار النهار،  2002.
3-           الإحصاء العلمي للأسماء الحسني، دار النهار،  2003.
4-            المقاصد العظمي في القرآن الكريم، دار الأستاذ، 2004.
5-            نظرات جديدة في الحقائق والأصول، 2005.
6-            نظرات جديدة في المصطلحات، 2005.
7-            نظرات جديدة في الآيات، 2006.
8-            من هدي الآيات، 2006.
9-            المقصد الديني الأول، 2006.
10-       نظرات في السنن والمرويات، 2006.
11-       الأسس النظرية لدين الحق، 2006.
12-       نظرات إضافية في المصطلحات، 2007.
13-       نظرات عامة جديدة، 2007.
14-       نظرات في التاريخ، 2008.

الأربعاء، 18 يوليو 2012

من أركان الإسلام: الصيام (2)


لقد ورد في أمر الصيام الآيات الآتية:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{183} أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ{184} شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ{185} وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ{186} أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ{187}.
ويلاحظ أن الآيات حرصت على ذكر المقاصد وعلي حث الناس علي توكيد صلتهم بربهم، ويزعم  البعض أن الآية الآمرة بصيام رمضان قد نسخت الآية التي قبلها، والحق هو أنه ليس ثمة نسخ هاهنا ولا في أي مكان آخر من الكتاب، والآيتان 183-184 تلزمان المسلم بالصيام إجمالا، فكان المسلمون يصومون أياماً معدودات فوِّض إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيانها أو تركت لاختيارهم، وهذا أمر كان يعني الجيل الأول فقط ولا يعني أحداً من الأجيال اللاحقة، ثم فُرِض صيام رمضان، فمن صامه فقد وفي بما فرضته الآيتان المذكورتان، فليس ثمة أدنى تناقض، ولا يوجد ما يمنع المسلم من أن يلزم نفسه بصيام أيام أخر بالإضافة إلى صيام رمضان، فآية الأمر بصيام رمضان لم تنسخ الآيات السابقة لا من حيث الشكل ولا من حيث الحكم ولا من حيث المضمون، فما زال الصيام مكتوباً علي المسلمين، وما زال الصيام خيراً لهم، ومازالت التقوى من مقاصده، ومازال المسلمون ملزمين بصيام أيام معدودات، ومن ألزم نفسه بصيام أيام معدودات في غير رمضان بطريقة منتظمة أو لأي سبب شرعي فقد لزمته الأحكام المنصوص عليها في الآيتين 183-184، فآيات القرآن مصاغة بحيث لا يمكن أن تتعرض للنسخ، أما الذي من الممكن أن ينسخ فهو حكم التزم به أهل القرن الأول لفترة ما، وهو بالطبع لم يرد في القرآن، والمسلمون من بعد ليسوا مطالبين بمعرفة ماذا كان هذا الحكم ولا بالتفتيش عنه إلا لأغراض البحث التاريخي، ومن أمثال ذلك نهي النساء عن زيارة القبور ثم السماح لهن بذلك.
والآيات تبين أن الصيام بصفة عامة هو ركن من أركان الدين، وقد كُتب على المسلمين كما كتب على الذين من قبلهم، ولذلك كان المسلمون يصومون متبعين ملة إبراهيم كما كانوا يصلون في البداية مثلهم، فكانوا لذلك يصومون أياماً معدودات وكان لا يحل لهم في ليلة الصيام الرفث إلى نسائهم.
فكان ثمة حكم شرعي معلوم لم يرد في القرآن يمنعهم من الرفث إلى نسائهم في ليلة الصيام، ولقد نسخ الله هذا الحكم بما هو خير منه لما يتضمنه من التيسير ورفع الحرج عنهم؛ فأحلَّ لَهُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِهُمْ، وكان ذلك بعد أن تبين للرسول ولهم هم عملياً أنهم كانوا يجدون مشقة في الالتزام بهذا الأمر، وقد يقول قائلهم: ألم يكن الله يعلم ذلك من قبل؟ فالجواب هو أن ما يقال إنه كان معلوماً من قبل هو في الحقيقة أمر مقدر، والعلم يحيط به من حيث ذلك ومن حيث هو كذلك، أما العلم بمعناه الحقيقي فهو يتعلق بالأمر الظاهر المتحقق، فكثير من التشريعات الجزئية إنما تبنى على هذا العلم ولا تبنى على العلم بالأمر المقدر، وتلك هي سنة الله في هذا الأمر، ويجب التأسي بها والعمل بمقتضاها عند سن أي تشريع جديد وعند التعامل مع الناس، فلا يجوز أن يصدر أحدهم على الناس حكماً ملزماً تترتب عليه آثار هامة بناء على تقديراته (توقعاته) حتى وإن كان على ثقة من صدقها وصحتها، وإنما بناءً على ما صدر عنهم بالفعل، وكون الأمر قد تم كذلك هو تصديق للآيات القرآنية التالية:
{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }البقرة106، {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}الأعراف157.
فالذي نُسِخ هو الحكم الذي كان ملزما لأهل الكتاب وللمتمسكين ببقايا ملة إبراهيم، وبذلك تبين للناس أنه كان من مهام الرَّسُول النَّبِيّ الأُمِّيّ أن يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ، كما تبين للناس عظيم فضل الله عليهم ورحمته بهم.
فيجب العلم بأنه لم يتم نسخ أي آية قرآنية بتقرير هذا الحكم الجديد وإنما الذي نُسخ هو حكم كان ملزماً للناس من قبل وورد في شريعة أخرى؛ فلا نسخ في القرآن، فالمراد في الآية في قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}البقرة106 هو حكم أو نص ديني في شريعة سابقة.
والأحكام المتعلقة بالصيام واضحة في الآيات، فَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، فَمَا جَعَلَ الله عَلَي الناس فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، أما من يجد مشقة تفوق المشقة المعتادة أثناء الصيام لسببٍ ما بما في ذلك أنه كان مريضاً أو على سفر ويعلم أنه قد لا يتمكن من قضائه من بعد فعليه أن يطعم مسكيناً عن كل يوم لم يصمه، والإنسان على نفسه بصيرة فيما يتعلق بأمر الصوم وفيما يتعلق بكل العبادات الفردية، فهو المفوض لكي يقرر مدى طاقته وإطاقته، وهو بالطبع سيتخذ قراره بناءً على ما لديه من التقوى، وكل إنسان هو مبتلى في الحياة الدنيا ليتبين له عمله ومرتبته وحقيقة أمره، فالأوامر الدينية التي مجالها هو الإنسان المكلف المخير المبتلى ليست كالقوانين الطبيعية ولا كالقوانين البشرية.
ولقد كان المسلمون يصومون أياماً معدودات فوِّض إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيانها، وكانوا في ذلك متبعين لملة إبراهيم، ثم فُرِض صيام رمضان، فمن صامه فقد صام الأيام المعدودات ووفي بما فرضته الآيتان المذكورتان، وتلزمه في هذه الحالة الأحكام الواردة في الآية الآمرة بصيام رمضان، أما من ألزم نفسه بصيام أيام معدودات لأي سبب من الأسباب فهو ملزم بكل ما ورد في الآية التي تذكر أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وهكذا فلا نسخ في القرآن، فالقرآن مصاغ بحيث لا يتعرض أي شيء فيه للنسخ الذي اصطلحوا عليه.
------------
لقد بينت الآيات أن الصيام كتب علي المؤمنين أي علي الذين آمنوا بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبما أنزل عليه واتبعوه وبينت المقصد من الصيام وهو التحقق بالتقوى والشكر، فالأمر بالصيام ليس بالأمر التحكمي، ذلك لأنه سبحانه لن تنفعه عبادة الثقلين، فما كتبه عليهم هو لصالحهم، فالتقوى هي مناط التفاضل الحقيقي، وهو سبحانه يرشدهم إلي سبيل من سبلها، ولقد كتب عليهم ما يمكنهم من التحقق بها والتزود بها، ولقد كانوا يصومون أولا أياما معدودات ترك أمرها مبهما في القرآن تمهيدا لإلزامهم بصيام رمضان من بعد، وبذلك لا يكون ثمة اختلاف في القرآن ولا مبرر للقول بالنسخ، فلا تعارض بين هذه الآية وبين الآية التي ستلزمهم بصيام رمضان، وهكذا تدرج بهم التشريع ولم يطالبوا بصيام رمضان بمجرد كتابة الصيام عليهم، والآية (البقرة: 184) ترخص لمن كان مريضا أو علي سفر بأن يقضي من أيام أخر بقدر ما أفطر، أما من يجد مشقة في الصوم لا يرجى برؤه منها سريعا فعليه الفدية، أما قوله سبحانه وتعالى: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} فهو حث علي صيام التطوع وغيره من النوافل، وقوله: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} ليست حثا علي ترك الرخصة وإنما هي بيان لأهمية الصيام بصفة عامة وأنه خير للإنسان، فهي حث علي الالتزام بتلك العبادة وليست تفضيلا للصيام بالنسبة لمن تقدمت حالاتهم، فالآية 185 لم تنسخ الآية 184 وإنما جعلت صيام رمضان هو الصيام المكتوب الملزم، أي جعلت صيام الأيام المعدودات متضمناً في صيام رمضان، ولما كان المسلم غير ملزم بمعرفة التطورات التاريخية التي صاحبت عصر النبوة فإنه يكفيه أن يعرف أن الآية 185 هي بيان وتفصيل إضافي للآية السابقة عليها، وهذا هو المفهوم القديم والأصلي للنسخ، فهو لا يعني إزالة آية أو إزالة حكم آية وإنما بيانها وتفصيلها، فالقرآن مصاغ ليكون –برغم تطور التشريع وتزايد الأحكام في عصر النبوة- بمنأى عن النسخ بالمعنى الذي سيقول به من بعد بعض المغرضين والمغفلين تحت تأثير إلقاءات الشياطين.
------------
إن الصيام لا يعني فقط الامتناع عن تناول الطعام والشراب وإنما هو الكف الاختياري عن استعمال الحواس والإمكانات الظاهرة لأوقات محددة، وهو بذلك من أفعل وسائل تسهيل القيام بأركان الدين الجوهرية العظمى مثل ذكر الله وإقامة صلة وثيقة به وتزكية النفس، فمن الصيام الامتناع عن اللغو والالتزام بالصمت وألا يعمل ملكاته القلبية في الأمور الدنيوية لفترات محددة.
لقد أباح القرآن للمريض وللمسافر الفطر، وترك تحديد التعريف الدقيق لكل من المرض والسفر لأولي الأمر المختصين المؤهلين أو للإنسان نفسه ليحدده بناءً على درجته من الرقي الجوهري، ذلك لأن المعول هو علي ما أضمره الإنسان في قلبه، والإنسان مبتلى بما صدر إليه من أوامر وما كُلِّف به، واستجابته من حيث المدى والطبيعة هي التي ستحدد مدى انتفاعه بالقيام بما أمر به، ويمكن للإنسان دائما أن يسترشد بأولى الأمر في مصره وعصره، فهم الذين سيبينون له مدى تأثير الصيام على جسده، وكذلك الأمر فيما يتعلق بتعريف الفدية وكمية ونوعية الطعام والمسكين، فأولو الأمر هم الذين جمعوا كل ما يلزم من العلوم اللازمة للبت وإصدار الأحكام المتعلقة بهذا الأمر.
------------
إن قضية التدخين أثناء الصيام ليست مجرد مشكلة تحليل أو تحريم، فكون التدخين مأموراً باجتنابه كسائر الآثام هو أمر مفروغ منه، وإنما هي أيضاً مشكلة صحة أو فساد الصيام، فأمور مثل التدخين وتعاطي المخدرات وكل ما أشبه ذلك وكل ما يمكن أن يستجد من أمور كهذه مفسدة للصيام بلا ريب، ويجب أن يتذكر الإنسان دائماً أن رب العالمين والكرام الكاتبين ليسوا مجموعة من الموظفين البيروقراطيين الذين لا هم لهم إلا سلامة الشكل مهما فسد المضمون، وإذا كان الإنسان مأموراً بترك الحلال أثناء الصيام فكيف بالأمور المحرمات والأمور المتشابهات، إنه لا قيمة لصلاة المرائي مثلاً مهما تفنن في القيام بكل تفاصيلها المذكورة في كتب (الفقه)، ولا قيمة لما قرروه من أنه تسقط المطالبة بها إذا أداها كما ورد في تلك الكتب، ذلك لأنه ليس من سلطتهم تحديد الجهة التي تسقط عندها المطالبة، ولا إلزام الله تعالى بما يرونه هم، وبالمثل لا قيمة لصيام المدخن أو لمن اتخذه وسيلة لإهمال الأركان الأخرى أو لاقتراف المعاصي.
أما عجز المدخن عن إتمام الصيام أو القيام به فلا يعطي لأحد الحق في إباحته له فمثله كمثل مدمن الخمر وغيره؛ وبصفة عامة فإن عجز المرء عن التوقف عن اقتراف إثمٍ ما لا يجعله حلالاً له، وعلى مدمني الخمر والتدخين وأي أمر آخر منهي عنه أن يتحملوا عواقب أمورهم.
------------
يقول بعضهم أن التدخين ليس بحرام وأنه لا يفطر الصائم ولا يفسد صيامه، وهذا القول منهم سببه الإصرار علي اختزال الدين وإكسابه طابعا شكليا جامدا، والحق أن التدخين وكل ما يمكن أن يستجد من الأمور المشابهة هو مخالفة لأوامر دينية صريحة وهو بذلك يؤدي إلي تقويض مقاصد الدين ومنع تحقيقها ويتناقض مع خصائص وسمات الدين، فالذي يعمد إلي إشباع شهوة التدخين في نهار رمضان مع علمه بأن أولي الأمر المختصين –أي الأطباء الشرعيين- قد أكدوا علي أنه ضار بالإنسان وعلي أن تأثيره كتأثير السم البطيء وأنه لا يؤدي أبداً إلي أي نفع للجسم الإنساني وإنما يفسد مقاصد الصيام، فهو بالتأكيد لن يتحقق بالتقوى ولن يزكي نفسه، إن أموراً مثل التدخين أو تعاطي المخدرات ....إلخ تؤدي أيضا إلي القتل البطيء للنفس دون أي نفع يرجى منها كما تؤدي إلي إهدار المال وتبديده فهي أشد إثماً من التبذير، إنه يجب علي كل إنسان أن يعلم أنه يتعامل مع إله حي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ولا يمكن خداعه وليس مع منظومة أوامر وقوانين جامدة وعليه أن يعلم أن دينه دين حِكَم ومقاصد وأن كتابه هو الكتاب الحكيم، وبعد كل هذا لا يجوز لأحدهم أن يحرم ما لم يرد فيه نص صريح ولكن عليه بيان الأمر للناس واستنباطه، فالتدخين محرم لما يتضمنه من ظلم وإفساد وتبذير وإلقاء بالنفس في التهلكة... وكلها أمور من كبائر الإثم المحرم وليس لأن إنساناً ما حرمه، فلقد تم استخلاف الإنسان في الأرض وعليه أن يُعمل ما لديه من ملكات ذهنية ومن معارف ليعلم ما يساعده علي تحقيق مقاصد الدين، كما ينبغي أيضاً أن يعلم ما يمنعه من تحقيقها أو يؤدي إلي تقويضها حتى يتجنبه، وعليه أن يعلم أن أولي الأمر المختصين المؤهلين قد أجمعوا علي أن أعمالا مثل التدخين وتعاطي المخدرات تؤدي إلي ضرر محض ولا نفع فيها، بل هي تبديد وإهدار للموارد التي كان ينبغي إنفاقها في سبيل الله، وهي كذلك إخلال بواجبات الاستخلاف في الأرض، وهي من الخضوع لأهواء النفس مما يؤدي إلي تدهور الكيان الباطني، لذلك فعليه أن يمتنع عنها دون حاجة إلي رجل دين يحلل ويحرم، ويجب أن يعلم كل مسلم أنه ملزم بطاعة أولي أمره الشرعيين عملاً بلوازم ركن من أركان الدين، إنه يجب أن يعلم كل مسلم أن الأداء الشكلي النمطي للصلاة والصيام لن يغني عنه من الله شيئاً، وكل إنسان هو أدرى بنفسه، وكل من يغلق علي نفسه الباب في رمضان ثم يمارس التدخين أو يشاهد صوراً عارية أو أفلاماً خليعة يعلم يقيناً أنه بذلك قد أفسد صيامه ولم يحقق مقاصده، وهو بذلك لا يخادع إلا نفسه.