إن مجال الإيمان هو عالم الغيب، والغيب هو كل ما غاب عن الإدراك العادي للإنسان، وهو أيضاً ما يقع خارج نطاق مفاهيمه وتصوراته، والمصدر المعتمد لكل ما يتعلق به هو الكتاب العزيز، وقد يحدث أن يطَّلع أحد الأفراد على أمور غيبية بالنسبة إلي الآخرين وهذا أمر جائز من حيث أن الإنسان لم يحط بكافة الملكات والحواس والقدرات الإنسانية المستترة, ولكن هذا الإطلاع هو أمر ذاتي, ولا يؤدي إلى علم مضبوط ولا يقدم منهجا معتمدا يمكن أن يزيد من المعارف المفيدة كما ثبت على مدى التاريخ, لذلك لم يعتبر الدين مسلكا كهذا ولم يرتب عليه أحكاما فإن النادر لا حكم له, ولقد ألزم الرب سبحانه الناس بالإيمان بما ورد في الكتاب ونفي عن رسوله علم الغيب ونفاه بذلك بالأولى عمن هم دونه، كما علم الناس بذلك أن سبل إيقاظ حواس الإنسان الباطنة طلبا لهذا العلم ليست بمطلوبة شرعا ولن تؤدي إلى مصلحة محققة للإنسان, وذلك في حين أنه ألزم الناس بإعمال ملكاتهم القلبية العامة والذهنية في الآيات الكتابية والكونية النفسية منها والآفاقية مما يدل على أن إعمال تلك الملكات هو السبيل الآمن والأفضل للرقي الإنساني.
------------
قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3)} (البقرة)، {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} (البقرة: 285)، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)} (البقرة)، {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (البقرة: 177)، {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمْ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا(39)} (النساء)، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا(136)} (النساء)، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(69)} (المائدة)، {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ(18)} (التوبة)، {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(19)} (التوبة)، {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَه}ُ (المجادلة: 22).
إنه يجب على الإنسان الإيمان بكل ما ورد في الكتاب العزيز من الأمور الغيبية؛ فيؤمن باليوم الآخر وبملائكة الله وكتبه ورسله والنبيين إجمالا ويؤمن بالكتاب العزيز وبخاتم النبيين إيمانا تفصيليا خاصا؛ وذلك يقتضي أن يؤمن بكل ما أورده الكتاب من معلومات عن خاتم النبيين وعن اليوم الآخر، وهذا الكتاب وحده هو علم للساعة، وللإيمان بالبعث واليوم الآخر الأهمية الفائقة وهو العلامة الكبرى الفارقة بين المؤمن الحقيقي من ناحية وبين الفاسق والمنافق من ناحية أخري، ومن أكبر كبائر الإثم التي تؤدي إلي هلاك محقق لكيان الإنسان الجوهري الكفر باليوم الآخر، فمن يكفر باليوم الآخر فإنما يكفر بحقيقته الأساسية الجوهرية ويحكم علي نفسه بألا يعيش إلا من أجل مكوناته الدنيا وسيكون بذلك في أسفل سافلين.
وعلي المؤمن أن يلتزم بالموازين القرآنية فيما يتعلق بأمور الغيب، وما أورده الكتاب من المعلومات هي التي ينبغي أن يعول عليها وأن يؤخذ بها، والمؤمن غير مطالب بالإيمان بشيء لم يرد له ذكر في الكتاب.
------------
إن الإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر هو من مقتضيات الإيمان بالإله الذي له الأسماء الحسني، ذلك لأن الإنسان المحدود المقيد لا يمكن أن يعرف أسماء من له الكمال الذاتي المطلق إلا عن طريق رسل مثله يستطيع أن يتعايش وأن يتعامل معهم، ومن عرف أن الله عليّ حكيم عرف أنه يلزم أن يتلقى أولئك الرسل الوحي عن طريق كائنات لطيفة هي الملائكة وعرف أن الله تعالي معتن بخلقه رحيم بهم يريد الصلاح والفلاح لهم ولذلك أرسل إليهم رسلاً منهم بالبينات والهدي والمعلومات اللازمة لكل ذلك وتضمنتها الكتب التي جاءوهم بها، ومن عرف الأسماء الحسني علم أن الله تعالي لم يترك خلقه سدي وأنه لابد من إحقاق الحق وتحقيق العدل وأنه لابد من يوم توفي فيه كل نفس نصيبها ويقضي فيما بينهم بالحق.
------------
إن الإيمان بالكتب والرسل هو من مقتضيات الإيمان بأسماء الله الحسنى والتي تشير إلى أن الله تعالى لم يخلق الناس عبثا ولم يتركهم سدي بل شاء أن يهديهم سبل الرشاد وأراد لهم الوصول إلى كمالهم المنشود، فهذا الإيمان يعنى أصلاً الإيمان بمنظومة أسماء الرحمة والهدى والإرشاد التي يمثل الرسل أكبر مظاهرها على المستوى الإنساني ويمثل ما أتوا به من رسالات مظاهرها على المستوى الأمري المعنوي، وبعد اكتمال الدين وختم الأنبياء وإنزال القرآن ونسخ ما سبق من الكتب والأديان فإن السبيل المأمون للنجاة والسعادة هو في الإيمان بالرسول الأعظم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبرسالته التي هي القرآن، وهذا الإيمان يقتضى تدبر آيات الكتاب والعمل بمقتضى ذلك، وهذا هو ركن ديني آخر، والإيمان بالقرآن يقتضي التسليم بصدق كل ما ورد فيه من أنباء وعلوم وقيم وأسس ومبادئ وأحكام، لذلك فإن إنكار أية آية من آيات القرآن بأسلوب صريح أو ملتوٍ يهدم جزءاً من هذا الإيمان، وهذا الإنكار هو في الحقيقة من الكفر، ومن الأساليب الملتوية لإنكار آية من الآيات محاولة صرفها عن مدلولات ممكنة لها أو محاولة تأويلها ابتغاء الفتنة أو القول بنسخها.
------------
لقد اقتضت عظمة قدر الله تعالي أي طلاقة كماله اللانهائي المطلق كما اقتضت منظومة أسمائه الحسني أن يخلق كائناً ذا إرادة حرة واختيار ويكون هو الأداة المثلي لتفصيل الكمال المطلق وكمال ظهوره فكان الإنسان, ثم اقتضت منظومة أسماء الرحمة والهدي أن يكون ثمة طريق للإنسان نحو التحقق بكماله المنشود وبالسعادة في الدنيا والآخرة وألا تكلهم فقط إلي جهودهم الذاتية والتطورات الزمنية, فاصطفي الله سبحانه رسلا منهم هم من حيث حقائقهم الذاتية أقربهم إليه وأجمعهم لصفات الكمال, ولكنهم من حيث المظهر بشر مثلهم, فالكنه الذاتي للرسل هو فوق كل إدراك وتصور, والأسماء التي اقتضت حقائقهم الذاتية هي أعظم الأسماء إحكاما وإحاطة, لذلك فهم ليسوا مطالبين بالجهاد الروحاني العنيف لتزكية أنفسهم، وليسوا في حاجة إلي إيقاظ حواسهم الباطنة ولا إلي الانفعالات الوجدانية التي تؤدي إلي قول الشعر مثلا, وهم يبقون محتفظين بكافة الدوافع والملكات والقدرات البشرية لأنه أنيط بهم أن يكونوا الآلات المعتمدة لإتمام التشريعات وإنجازها وتحقيق المقاصد الدينية التي اقتضتها منظومة أسماء الرحمة والهدي والتي يمثلون هم أبرز مظاهرها، أما الكتب فهي جماع ما أوجبه الله تعالي من حيث منظومة أسماء الرحمة والهدي علي الأمم حتى يحققوا ما يريده لهم من السعادة في الدنيا والآخرة، وما أوجبه هو أوامر شرعية وسنن دينية والإيمان بما ذكره للناس من أنباء ومعلومات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق