الأربعاء، 2 يناير 2013

الممتحنـــة :7- 8


الممتحنـــة :7- 8
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(7)لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(8)
أوضح الله سبحانه هنا أنه لا ينهى المؤمنين عن البر والإقساط إلى الناس مهما كانت أديانهم أو عقائدهم طالما التزموا بأمرين : أحدهما أنهم لم يقاتلوا المؤمنين في الدين أي بدافع اختلاف الدين والثاني ألا يضطهدوا المؤمنين إلى حد إخراجهم من ديارهم ، فالآية تحث المؤمنين على البر والإقساط إلى من سالمهم من معتنقي الأديان والعقائد الأخرى، وتبين الآية:7 أنه ليس ثمة عداءات دائمة وأن احتمال تحول العداء إلى مودة هو أمر ممكن وهو خاضع لقوانين الله وسننه، لذلك فالمؤمن مأمور بممارسة مكارم الأخلاق مع الناس أجمعين.
إن الإسلام هو دين يعتقد ويعاش ويمارس وهو الدين الكامل الخاتم الذي يكفل لمن يعتنقه ويلتزم به السعادة الكاملة في الدنيا والآخرة، ولكن قد اقتضت قوانين الوجود وسننه وطبيعة الإنسان المكلف المختار أن يكون المؤمنون الحقيقيون قلة وأن يظل ثمة معتنقون للأديان السالفة وذلك إلي قيام الساعة، لذلك تضمنت تعاليم الإسلام سبل التعامل مع معتنقي الأديان والمذاهب الأخرى، ولقد أكد الكتاب العزيز أن الله تعالى يحب المقسطين ويأمر بالعدل والإحسان ولا يحب المعتدين كما أنه يلعن الظالمين ويتوعدهم بالعذاب الأليم وأنه ليس من حق أحد مهما علا شأنه وعظم قدره أن يكره الناس حتى يكونوا مؤمنين، وكل ذلك وما جاء به الإسلام من منظومة قيم -هي أسمى ما يمكن أن يعرفه الإنسان من منظومات قيم- يجب أن يعاش وأن تصطبغ به حياة الكيانات الإسلامية كالفرد والأسرة والجماعة والأمة، فتعليمات الإسلام للناس على أنساق: فثمة نسق خاص بالفرد هو لب هذا الدين وجوهره والالتزام به يؤدى إلي تحقيق المقصد الأعظم الثاني الذي هو لب المقاصد الدينية، وثمة نسق يختص بطائفة من المسلمين من حيث أنهم أقلية في بلد متعدد الديانات، وثمة نسق خاص بتلك الطائفة عندما تكون هي الأغلبية أي يشكلون أمة كبيرة في وطنهم، وثمة نسق خاص بالأمة من حيث أن لها دولة أي من حيث أن ثمة هيئة تمثلها تجمع كافة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، ولقد ترتب علي التطور الذي شهدته البشرية اختلاف طبيعة الكيانات الإنسانية الكبرى فأصبح الوطن هو وحدتها الأساسية مع إمكانية تحالف وائتلاف مجموعة من الأوطان، وكل وطن يتعايش فيه مجموعة من الأعراق ومعتنقي الديانات المختلفة، وهذا الوضع هو أمر جديد ولا يمكن إعمال ما ابتدعه السلف من أساليب التعامل والعلاقات بين الكيانات الإنسانية في العصور الوسطي عليه، لذلك فينبغي استنباط وبيان القواعد والأسس المتسقة مع مقاصد الدين العظمى وتعاليمه الأساسية ومنظومات قيمه وسننه والتي تمكن المسلم من التعايش مع تلك الكيانات، فالمسلم الذي يعيش منفردا في بلد علماني مثلا عليه أن يلتزم بما هو مطلوب منه كفرد مسلم وألا يحمل نفسه ما لا طاقة له به مما لا تطالب به إلا جماعة أو أمة من الإسلاميين، فعليه أن يحاول تحقيق المقصدين الدينيين الأول والثاني وأن يقدم لهم المثل الأعلى للكمال الإسلامي وبذلك يكون أمة وحده، وكذلك الأمر بالنسبة إلي أقلية من المسلمين تحيا في ظروف مشابهة، وإن كثيرا من المتاعب التي يلاقيها المسلمون الآن هي بسبب عدم وجود صياغة دقيقة محكمة تمكنهم من التعامل مع تلك الأوضاع المستجدة وليس لدى الكهنوت إلا ما ورثوه عن أسلافهم من أساليب التعامل العدوانية والتي لن تجدي إلا في توحيد البشرية جمعاء ضد المسلمين، فما دام المسلم يعيش في بلد علماني لا يضطهد فيه في دينه ولا تنتهك حقوقه وتتوفر له فيه حرية العقيدة والعبادة والعمل والكسب واحترام كرامته كإنسان فإن عليه ألا يجعل من نفسه حربا علي البلد الذي آواه وكفل له كل ذلك، وعليه أن يدعو الناس إلى الإسلام بالأخلاق الحسنة والتفوق في شتى المجالات وبالسلوك الحميد الرفيع الذي يدفع الناس إلى التأسي به، والمقصود بالحكمة هنا هو أن يراعي أفضل السبل اللازمة للدعوة، وهو مكلف بإعمال كل ملكاته والإفادة من كل خبرات غيره وخبراته وبذل كل ما هو في وسعه لمعرفتها وإلا فإن عليه وزر من صدهم عن سبيل الله بأفعاله أو بسوء اختياره.
وقد يكون المسلم مواطناً في بلد يشكل فيه المسلمون أغلبية عددية ولكنهم لا يشكلون أمة حقيقية ولا يوجد لديهم كيان أو هيئة من أولى الأمر الحقيقيين تتولى تسيير أمورهم وفقاً لنسق التعاليم الخاص بالأمة الإسلامية والذي يجعل منها أمة فائقة داعية الي الخير قائمة بالقسط ومجسدة لتعاليم الإسلام، وهذا هو واقع الحال فى كل ما يسمى بالدول الإسلامية الآن، ولكن هذا لا يعطى للمسلم الحق في الخروج علي الناس أو ترويعهم أو محاولة حملهم على الالتزام بما يرى هو أنه صحيح الدين فإن كل ذلك ممنوع منعا باتا في الإسلام ومن يفعل ذلك ما له من نصير، كما أن معظم الناس لا يعرفون شيئا عن صحيح الدين بل إن المؤسسات الكهنوتية الرسمية هي أجهل شيء بالدين الحقيقي ومقاصده العظمى، والمسلم بالفطرة يفوقهم إيمانا وتقوى، ولقد تجاوز الناس في بعض الأقطار ما يؤمن به هؤلاء من صيغ جامدة للدين، فعلى المسلم في مجتمع كهذا أن يلتزم بكل ما هو ممكن من أنساق التعليمات الإسلامية وألا يجعل من نفسه حربا على شعبه أو وطنه أو أمته أو عاملا من عوامل تقويض بنيانها.
ومن المستحيل الآن محاولة جمع المسلمين في كيان سياسي واحد على مستوى العالم لأسباب لا حصر لها، وأية محاولة لتحقيق ذلك لن تؤدى إلا إلى القضاء علي المسلمين واستعبادهم لأعدائهم، وعلى المسلمين أن يعلموا أن تجربة صلاح الدين لم تكن التجربة المثلي ولن يسمح أحد بتكرارها، فلن يسمح أحد بعد الخروج من ظلمات العصور الوسطي أن يقوم أحد الجنرالات بغزو بلد آخر وفرض مذهبه على الناس فيه وإبادة المخالفين في المذهب أو الدين تحت أية حجة من الحجج أو ذريعة من الذرائع كما فعل صلاح الدين مع الشيعة المصريين مثلا، وإذا ما حاولت دولة تزعم أنها إسلامية الاعتداء على دولة أخرى مجاورة بحجة العمل على توحيد المسلمين فعلى كل مسلم فى الدولة المعتدى عليها أن يدافع عن وطنه، ذلك لأن الله تعالى لا يحب المعتدين، كما أن الغاية عنده لا تبرر الوسيلة، بل إن مجال اختبار الناس وابتلائهم هو في مدى التزامهم بالسنن والوسائل التي شرعها لهم، وهو لم يجعل أبداً من القتال وسيلة مشروعة لتوحيد المسلمين وإنما شرعه لرد عدوان المعتدين ولتأديب أهل البغي.
فالآية تأمر المسلم بألا يعتدي علي من يخالفه في الدين أو في المذهب، بل إن الآية تحثه علي البر والإقساط إلي من خالفه في الدين، فالدين لا يمكن أن يكون وسيلة لتأجيج نيران الحروب وتكريس البغي والظلم والعدوان أو إضفاء الشرعية عليها، ولكنه وسيلة لنشر الأمن والسلام وتحقيق السعادة للبشرية جمعاء.

الاثنين، 3 ديسمبر 2012

(2) قصة المسيح عليه السلام


(2) قصة المسيح عليه السلام

وكانت رسالة المسيح عليه السلام  خاصة ببني إسرائيل الذين لم يؤمن منهم إلا عدد محدود، ولقد ظل هؤلاء يعتبرون طائفة من طوائف اليهود، وعندما تآمر بعض بني إسرائيل عليه ليقتلوه نجاه الله من مكرهم، ولقد توفي بطريقة طبيعية مثل من خلوا قبله من الرسل من بعد أن أدى رسالته الأساسية وهي تصديق التوراة وتطهيرها من التحريف ومما ألحق بها وإعلام بني إسرائيل بانتهاء دورهم كأمة حاملة للرسالة وأن الأمر قد انتقل إلى أمة أخرى وأنه قد اقترب ظهور الإسلام يأتي به أحمد من الإسماعيليين، ولذلك أيضاً لم يكن مقدراً له أن يعقب كما كان يحيى u حصورا، وكل ذلك كان من مقتضى إنهاء سلالة النبوة من بني إسرائيل.
ولم يستمر في تمسكه برسالة المسيح عليه السلام إلا طائفة قليلة كانت تتداول الإنجيل الصحيح وتعمل به، وتلك هي الطائفة المسماة بالعيسويين، وهي لم تعلن أبدا خروجها عن شريعة موسى عليه السلام، وكان معظم إقامتهم في الكهوف والأماكن الموحشة، وبانقراضهم كجماعة انقرضت رسالة المسيح عليه السلام واختفى الإنجيل الأصلي إلا ما أخفوه منه في أماكن اختبائهم وتنسكهم، ولقد بقي منهم بعض الأفراد المتناثرين في الشام.
ولقد كان ثمة ممن هم من أتباعهم ممن جاءوا بعد أجيال من بعدهم من ظن أنه المسيح في عهد الرومان، وكان له نفس اسم المسيح؛ أي كان اسمه أيضاً عيسى بن مريم، ولقد كان هذا الرجل هو محور كل القصص الذي دون في الأناجيل التي بقيت واعتمدت من بعد، وكان هذا هو الذي صُلِب بعد أن كشف أمره اليهود وأتباع المسيح الحقيقيون، وكان هو في بدايته على الدين الذي أتى به المسيح الأصلي، وكان يظن أنه بالفعل تجسيد جديد للمسيح أو كما يقولون إن روح المسيح قد حلت فيه، وكان يتكلم من هذا المنطلق، ولقد صدرت عنه بالفعل بعض الأمور غير المألوفة كتلك التي تصدر من الزهاد واليوجيين والرهبان والمتصوفة على مدى العصور، ولقد بالغ الناس كعادتهم فيما يتعلق بمثل هذه الأمور وغلوا فيها وضخموها، ولقد زاد ذلك من افتتان الناس به وثقتهم بمزاعمه، ولكن عندما جد الجد تخلى الجميع عنه وتركوه ليواجه مصيره مثلما سيحدث من بعد مع الكثيرين من أمثاله، فهو الذي تلقى الإهانات والضرب والتعذيب وحمل الصليب في طريق الآلام، وهو الذي صُلِب وصرخ على الصليب: "إيلي إيلي لم شبقتني؟"، ولم تثر قصته في وقتها اهتمام أحد خارج بيئته المحلية ولم يسمع بها أو لم يهتم بها أي مؤرخ من المؤرخين المعاصرين للأحداث، فمثل تلك الأحداث لم تكن غريبة على عالم الشرق الأوسط، كما أن ما أظهره من أمور غير معهودة كانت محدودة، ولم تستغرق قصته وقتاً طويلا، والمشكلة أن قصته قد تعرضت لمبالغات شديدة على عادة الشعوب حتى ابتلعت قصة المسيح الأصلي وغطت تماماً عليها. 

(1) قصة المسيح عليه السلام


(1) قصة المسيح عليه السلام
إن قصة المسيح عليه السلام قد حدثت كلها قبل قدوم الرومان بزمن طويل (في نهاية سيطرة الفرس وبداية سيطرة المقدونيين السلوقيين على الشام)، ولقد وُلِد المسيح عليه السلام للسيدة مريم الهارونية (من سلالة لاوي أو ليفي التي منها موسى وهارون عليهما السلام وكانت هي من سلالة هارون) والتي يعني اسمها (أمة الرب)، ولقد كانت منذورة لله عزَّ وجلَّ فلم يكن لأحد أن يتقدم لخطبتها، ولقد تكلم في المهد واستمر من حينها يتكلم إلى أن بلغ مرحلة الكهولة أي حوالي 34 سنة، وخوفاً عليه من بني إسرائيل هاجرت به أمه إلى مصر بصحبة أحد أقاربها المتقدمين في السن ولم يكن خطيباً ولا زوجاً لها بل كان حامياً وراعيا لها، ولا أصل لما يسمى بمسار العائلة المقدسة، وعاشت الأسرة في مصر لمدة طويلة إلى أن بلغ المسيح عليه السلام العشرينات من عمره، ثم عادت الأسرة إلي فلسطين وأُنزل عليه الإنجيل دفعة واحدة، وكان يتكون من جزئين أساسيين؛ أحدهما للتعليم والآخر للهدي، وكان في مجموعه يعادل خمسين صفحة من صفحات القرآن، ومن أراد الإنجيل الصحيح فعليه بالقرآن وخاصة سورة لقمان، وكذلك عليه بما يسمونه بالأحاديث القدسية، وليس صحيحاً أن الإنجيل الحقيقي المنزل لم يكن يتضمن أحكاماً أو تشريعات، ولكن الإنجيل كان يقصد أساساً إلى إعطاء دفعة روحانية للرسالة والشريعة الموسوية وإعلام بني إسرائيل بانتهاء دورهم في التاريخ بعد فشلهم في حمل الرسالة والرقي إلى مستواها وإعلامهم باستخلاف غيرهم والتبشير بالرسالة الخاتمة، وليس ثمة من جدوى في البحث عن أصل الأناجيل المعروفة بما فيها إنجيل برنابا؛ ذلك لأنها كلها منحولة، وهي ليست إلا تجميعاً لتراث شعبي متعلق بسيرة المسيح عليه السلام ظل يتداول شفاهياً ولم يدون إلا بعد حدوث القصة الأصلية بعدة قرون وبعد أن اختلط بقصة من ظن وظنوا معه أنه المسيح الذي قام. 

الجمعة، 9 نوفمبر 2012

الإمامة


الإمامة 


قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }البقرة124، {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ }هود17، {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ }الحجر79، {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً }الإسراء71، {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً }الفرقان74، {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ }يس12، {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ }الأحقاف12.

إن الإمام بصفة عامة هو الكيان الذي جُعِل سبباً لتوحيد الاتجاه لمجموعة من الكيانات على أي مستوى من المستويات، لذلك فهو قد يكون إنساناً وقد يكون كتاباً.
والإمام هو من جُعِل سببا لتوحيد اتجاه أو قبلة أو مقصد الناس على أي مستوى من المستويات، أي من جُعِل سبباً لعمل (Alignment) أو (Coherency) لهم فيكون بمثابة قوة محفزة لاتساقهم وتوحد اتجاهاتهم مما يضاعف من قوتهم، والإمام في الخير يتولى الإمامة بجعلٍ الهي أي وفقاً لسنن إلهية، فهو لا يصل إلي مرتبة كهذه إلا إذا حقق قدراً معلوما من الرقي والسمو علي المستوي الجوهري.
ومن لوازم الإمامة الدينية الحقيقية التفوق القلبي الجوهري والالتزام بنهج لدعم وترسيخ هذا التفوق، والإمامة تفرض نفسها.
والإمامة لا تعني بالضرورة ولاية أمر الجماعة المؤمنة وإنما الإمام هو من استحق التقدم علي الناس في أمر من الأمور لأنه أجدر بأن يقتدي به وأن يتبع فيه، فهو بالنسبة إلي أمر ما المقدم من أولي هذا الأمر.
إنه قد يتمادى إنسان ما في الخير وقد يتمادى في الشر ويكون ذا شخصية مشعة كاريزمية فيستحق بذلك أن يكون إماما في المجال الذي تمادي فيه ورسخ في نفسه، ولقد كان إبراهيم عليه السلام إماما في الخير وكان آل فرعون أئمة في الشر، والإمامة في الخير لا تكون أبدا لظالم، والوصول إلي مرتبة الإمامة يستلزم توفر شروط معينة وسريان نسق خاص من القوانين والسنن، ولقد كانت قريش بحكم طبيعتها وإمكانات أبنائها مؤهلة أكثر من غيرها من القبائل العربية لكي يكون منها أئمتهم في الخير أو في الشر، ولقد أثبت التاريخ ذلك، لذلك كانت الإمامة في القرون الأولي فيهم، فالمروية المنسوبة إلي الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقرر وتبين هذا الأمر الواقع، وليس ثمة علاقة ضرورية بين الإمامة وبين ولاية أمر الناس، فكم من إمام لم يتول أمر أحد من الناس، لذلك فالمروية المعلومة لا تلزم الناس بألا يولوا عليهم إلا قرشيا، ولكن الأمويين هم الذين تعمدوا تحريف معناها ليكسبوا تسلطهم الشرعية المفتقدة، وبالطبع فإن كل مزاعم القرشيين تتناقض مع كل ما أتي به الإسلام ومع سماته، فلا قيمة لها.
إن الكتاب العزيز هو المرجع الأوحد لكل المصطلحات الدينية، وهو لم يستعمل الإمامة بمعنى ولاية الأمر، ولكن الإمامة الحقيقية في مجال الخير هي أن يصل الإنسان إلى مرتبة فائقة من السمو والرقي على المستوى الجوهري الباطني بحيث يكون من الطبيعي والبديهي أن يأتم الناس به في أمور الدين والهدى والرشاد، وتلك الإمامة بحكم طبيعتها وبحكم مقتضيات الأمور لا يمكن أن تحتكرها قبيلة معينة لنفسها ولا شعب مختار لنفسه، ولقد بين الكتاب مراراً وتكرارا أن الناس يتفاضلون بالتقوى والعمل الصالح ونفع الناس وأنهم سواسية وخلقوا من نفس واحدة، فالإمامة لمن وفى بشروطها وكان أهلا لها ولم يكن من الظالمين، أما الملك فإن الله تعالى يؤتيه من يشاء أي وفق قوانين وسنن معلومة لديه، أما ولاية الأمر فهي كما تشرح نفسها بتعريفها هي لمن هو أولى وأجدر بها، والأمر لا يعني بالضرورة الحكم وإنما هو أعم من ذلك بكثير، فهو يعبر عن كل عمل أو علم أو نشاط إنساني ممكن، ولقد عين الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للناس أئمة من كافة القبائل ولم يقصر الإمامة أبدا على القرشيين، وكذلك كان الأمر في الإمارة فلقد كان يولى الأصلح والأكفأ ومن يتوسم فيه الخير والاستعداد ليكون قائدا، ولقد ولى أسامة بن زيد وكان شاباً الإمارة على جيش كان فيه الصديق والفاروق، وعندما احتج الحزب القرشي أنبهم بشدة وأعلن عليهم أنه خليق بالإمارة كما كان أبوه خليقاً بها، وإذا كان قد اختص بعض القرشيين ببعض المنح والعطايا فلقد كان لذلك أسبابه الخاصة التي أعلنها وبيَّنها وكلها كانت لخدمة أغراض الدعوة، إن أفعاله الثابتة تلك لهي أدل على سنته الحقيقية من المرويات التي لفقت من بعد أو حرفت لتضفي الشرعية المفتقدة على حكم الأمويين والعباسيين وتسلطهم، ولقد كانت سنته في تعيين الأمراء هي أول ما نقضه المسلمون إذ سرعان ما استأثر الحزب القرشي بالأمر من دون الناس، ولم يتخذوا من الأنصار وزراء كما تعهدوا بذلك في السقيفة، وأسندت قيادة الجيوش وولاية الأمور في البلدان المفتوحة إلى رجال الحزب القرشي أو من مالأهم، وكان كثير منهم من الطلقاء أو حديثي العهد بالإسلام أو ممن لم يتلقوا التربية والتزكية اللازمة على يد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان نقض سنته في ولاية الأمر من أكبر أسباب الفتنة من بعد.
إنه لا ينبغي الخلط كما تعمد السلف أن يفعلوا بين الإمامة في الخير وبين ولاية الأمر، فالإمامة منوطة بالتقوى والتفوق الجوهري الباطني وسمو الملكات الإنسانية الحقيقية والوجاهة عند الله تعالي، أما ولاية الأمر فهي منوطة بالمقدرة أو الكفاءة أو التمكن من الأمر المعنى، لذلك فللإمامة رجالها ولولاية الأمر رجالها، لذلك فإن تفوق إنسانٍ ما في أمر محدد كالطب أو الهندسة مثلا لا يجعله بالضرورة إماما، فالإمامة هي نوع من الوجاهة أو الرياسة الدينية المستحقة، وهي تفرض نفسها علي الناس بل وعلي المتصف بها، وقد تجتمع مستلزمات الأمرين في شخص واحد بمعنى أن يكون الإمام متفوقاً في أحد المجالات الأخرى ومتمكنا منها مثلا.
وبالنسبة إلي أهل القرن الأول كان من الطبيعي أن يكون الأئمة من قريش، فلقد كان منهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ نفسه وكان منهم أكابر السابقين الأولين من المهاجرين، وكانت قريش تتفوق بالفعل على باقي العرب والأعراب في المستوى العام وكان باقي العرب والأعراب يسلمون لهم بذلك، ولكن هذا لا يقتضي ولا يستلزم استئثار قريش بالقيام بالأمر ولا استبعادهم السابقين الأولين من الأنصار منه؛ ذلك لأن الإمامة شيء والقيام بأمور الناس شيء آخر.

المراجع (كتب المؤلف أ. د. حسني أحمد):
1-           الأسماء الحسنى والسبع المثاني، 2002.
2-           الأسماء الحسنى في القرآن العظيم (قراءة جديدة)، دار النهار،  2002.
3-           الإحصاء العلمي للأسماء الحسني، دار النهار،  2003.
4-            المقاصد العظمي في القرآن الكريم، دار الأستاذ، 2004.
5-            نظرات جديدة في الحقائق والأصول، 2005.
6-            نظرات جديدة في المصطلحات، 2005.
7-            نظرات جديدة في الآيات، 2006.
8-            من هدي الآيات، 2006.
9-            المقصد الديني الأول، 2006.
10-       نظرات في السنن والمرويات، 2006.
11-       الأسس النظرية لدين الحق، 2006.
12-       نظرات إضافية في المصطلحات، 2007.
13-       نظرات عامة جديدة، 2007.
14-       نظرات في التاريخ، 2008.

وسائل المعرفـة


إن الحواس هي وسائل تلقي التأثيرات من الكائنات، وكل حاسة تتلقى من التأثيرات ما يقع في مجالها، وتلك التأثيرات تنتقل إلى الدماغ الذي هو الآلة المادية للقلب الإنساني حيث تتم معالجتها، ويقوم القلب باستيعابها وتفسيرها وفقاً لما هو مبرمج عليه ووفقا لما لديه من معلومات مسبقة، وهذا القلب قابل ايضاً لأن يحمل ببرامج إضافية ولأن يكتسب باستمرار معلومات إضافية وذلك بتأثير البيئة الثقافية وما تم اكتسابه من معارف وخبرات جديدة.
أما الكتب وحاويات البيانات والنصوص الأخرى فهي لا تتحول بالنسبة لإنسان ما إلى مصدر حقيقي للمعلومات إلا بناءً على موقفه هو منها، ولملكات الإنسان دخل كبير في تحديد هذا الموقف، وهذا الموقف هو من مجالات الإرادة الإنسانية الحرة، ولا يمكن لذلك تغيير طبيعة الأمور، فالدنيا دار ابتلاء، ومصير كل إنسان بمقتضي الحقيقة الإنسانية معلق باختياراته.
وللكيان الإنساني الجوهري حواسه الخاصة التي تشير كل حاسة ظاهرة إلى حاسة منها، والإنسان عادة ما يهمل أمر مثل هذه الحواس، وممارسة أركان الدين الحقيقية هي الوسيلة للتنمية الآمنة أو لتزكية مثل هذه الحواس حتى يتمكن الإنسان من الانتفاع بها في الدار الآخرة، أما الانتفاع بتنميتها في الدنيا فليس مطلوباً بذاته، ومن جعل تنمية مثل هذه الحواس أكبر همه ومبلغ علمه قد يستدرج به ويَضل ويُضل غيره، ذلك لأنه لن يتلقى من عالم الخيال إلا ما هو متوافق معه وما هو على استعداد له.

السبت، 20 أكتوبر 2012

وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ {6} العنكبوت


وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ {6}
إن من له الوجود المطلق والكينونة المطلقة والأسماء الحسنى هو الغني المطلق عمن هم مجرد إعادة صياغة للعدم المطلق؛ من هم مجرد صور على صفحة العدم لو شاء لأهلكهم جميعا؛ من لا يملكون من حيث أنفسهم إلا نقصهم ومقتضياته، لذلك فكل جهاد يبذله الإنسان إنما تعود ثمرته عليه.
-------
إن الجهاد مطلقاً هو ركن من أركان الدين، والفائدة من القيام بأي ركن إنما تعود على الإنسان نفسه، فلن يبلغ مخلوق أبداً القدرة على أن ينفع ربه الذي هو الغنيّ المطلق، لذلك فعلى الإنسان ألا يُدِلّ على ربه وألا يمنّ عليه بطاعته، بل إن قيام الإنسان بركن ديني يستوجب من الإنسان مزيداً من الشكر لربه الذي يمكنه أن يحول بين المرء وقلبه، وهو لا يقبل الطاعة إلا ممن تواضع بها لعظمته ولم يتطاول بها على أحد ولم يرائي الناس بها، فويل لمن لا يؤدون شعائر الدين إلا ليستمدوا منها الدافع والمبرر للتطاول على الآخرين، فوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَسبَتْ أَيْدِيهِمْ، وويل لهم مما يقترفون.
=======

الاثنين، 20 أغسطس 2012

التـوكـل


التوكل يتضمن إسناد مهام أو أعمال إلى الموكل ليقوم بها نيابة عن موكله وهو يستند إلى ثقة الموكل بالموكل إليه، والتوكل علي الله تعالي مرتبط بحسن الظن به وبالثقة به، فالإنسان مطالب بأن يثق بربه، ومن ذلك أن يعلم أنه قد نبأه في كتابه بكل ما يلزمه من معلومات ومعارف وأوامر وقوانين وسنن وكل ما هو كفيل بتحقيق السعادة له في الدنيا والآخرة، وكذلك حذره مما يمكن أن يعرضه للهلاك، فالاعتقاد بأن ثمة أمورا كبري لم يتضمنها الكتاب أو يبينها يندرج تحت سوء الظن بالله تعالي، ومن ذلك اقتراف المعاصي؛ فالعاصي المصر علي معصيته يظن أن ربه يريد حرمانه من الاستمتاع ومن السعادة أو هو ينكر وجود ربه أصلا أو لا يقيم له وزنا.
------------
إن التوكل على الله تعالى وتفويض الأمر إليه والفرار إليه والاعتماد علي حوله وقوته من تفاصيل هذا الركن، وهذه صفات تقتضى أفعالا وكلها من لوازم القيام بحقوق الأسماء الحسني، فالتوكل من تفاصيل ولوازم ركن الإيمان بالله تعالي والقيام بمقتضياته.
------------
إن التوكل علي الله أمر ديني واجب وفرض لازم وهو ركن فرعي من أركان الدين، وهو من مقتضيات ولوازم الإيمان بالإله الذي له الأسماء الحسني ومن مقتضيات القيام بحقوق تلك الأسماء ومن الصفات التي أعلن الله تعالى بكل وضوح أنه يحبها ويحب المتحققين بها، وهو بذلك من لوازم إقامة صلة وثيقة بالله تعالى، ولقد وردت الأوامر الخاصة به في الكتاب بصيغ أقوي وأكثر عددا من تلك الخاصة بالحج والصيام، وهذا الاصطلاح يطلق على أمرين :

1-          الحالة القلبية (الوجدانية العرفانية الذهنية) التي تعنى وتتضمن التحقق بالمعرفة اللازمة بالله تعالى وبأسمائه الحسنى وما اقتضته من القوانين والسنن والإيمان واليقين اللازم لكل ذلك، فيؤمن الإنسان بقدرة الله تعالى المطلقة وعلمه الشامل وإحاطته بالأمور ويوقن بأنه هو الذي يدبر الأمر ويفصِّل الآيات ويسير أمور الكائنات وأنه ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، فتلك الحالة تتضمن الثقة التامة بالله تعالي وتستلزم أن يفوض الإنسان كل أموره إليه وأن يؤمن بأنه معه يسمع ويرى ويراقب ويرتب الآثار على النتائج ويسير الأمر وفق قوانينه وسننه وأنه لا تبديل ولا تحويل لكلماته.
2-          جماع الآليات والوسائل التي يمكن أن تؤدى إلى اكتساب تلك الحالة الوجدانية، ولقد فوَّض الله تعالي أمرها إلي الناس لأنها تختلف باختلاف الأشخاص والعصور بل وتختلف باختلاف أحوال نفس الشخص، ومن الآليات الممكنة تكرار ذكر العبارات التي هي بمثابة استجابة للأوامر الإلهية الخاصة بالتوكل، فإذا قال الله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً} فيردد الإنسان سرا وجهرا العبارة الآتية: (توكلت عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً)، وإذا قال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} يردد الإنسان: (تَوَكَّلْت عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) مع الحضور القلبي والتركيز واستحضار كافة المعاني اللازمة لهذا القول وأن يتأدب الإنسان بالأدب اللازم لذلك، ولابد بالطبع من المداومة على هذا العمل كما يداوم الإنسان على تناول الطعام مثلا حتى يزود الإنسان كافة كياناته بما يلزمها من طاقات.

واكتساب صفة أو إحساس أو حالة وجدانية يلزم الإنسان بالعمل وفق مقتضياتها، وهذا يؤدي إلي ترسيخ تلك الصفة.