الممتحنـــة :7- 8
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ(7)لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي
الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا
إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(8)
أوضح الله سبحانه هنا أنه لا ينهى
المؤمنين عن البر والإقساط إلى الناس مهما كانت أديانهم أو عقائدهم طالما التزموا
بأمرين : أحدهما أنهم لم يقاتلوا المؤمنين في الدين أي بدافع اختلاف الدين والثاني
ألا يضطهدوا المؤمنين إلى حد إخراجهم من ديارهم ، فالآية تحث المؤمنين على البر
والإقساط إلى من سالمهم من معتنقي الأديان والعقائد الأخرى، وتبين الآية:7 أنه ليس
ثمة عداءات دائمة وأن احتمال تحول العداء إلى مودة هو أمر ممكن وهو خاضع لقوانين
الله وسننه، لذلك فالمؤمن مأمور بممارسة مكارم الأخلاق مع الناس أجمعين.
إن الإسلام هو دين يعتقد ويعاش ويمارس
وهو الدين الكامل الخاتم الذي يكفل لمن يعتنقه ويلتزم به السعادة الكاملة في
الدنيا والآخرة، ولكن قد اقتضت قوانين الوجود وسننه وطبيعة الإنسان المكلف المختار
أن يكون المؤمنون الحقيقيون قلة وأن يظل ثمة معتنقون للأديان السالفة وذلك إلي
قيام الساعة، لذلك تضمنت تعاليم الإسلام سبل التعامل مع معتنقي الأديان والمذاهب
الأخرى، ولقد أكد الكتاب العزيز أن الله تعالى يحب المقسطين ويأمر بالعدل والإحسان
ولا يحب المعتدين كما أنه يلعن الظالمين ويتوعدهم بالعذاب الأليم وأنه ليس من حق
أحد مهما علا شأنه وعظم قدره أن يكره الناس حتى يكونوا مؤمنين، وكل ذلك وما جاء به
الإسلام من منظومة قيم -هي أسمى ما يمكن أن يعرفه الإنسان من منظومات قيم- يجب أن
يعاش وأن تصطبغ به حياة الكيانات الإسلامية كالفرد والأسرة والجماعة والأمة،
فتعليمات الإسلام للناس على أنساق: فثمة نسق خاص بالفرد هو لب هذا الدين وجوهره
والالتزام به يؤدى إلي تحقيق المقصد الأعظم الثاني الذي هو لب المقاصد الدينية،
وثمة نسق يختص بطائفة من المسلمين من حيث أنهم أقلية في بلد متعدد الديانات، وثمة
نسق خاص بتلك الطائفة عندما تكون هي الأغلبية أي يشكلون أمة كبيرة في وطنهم، وثمة
نسق خاص بالأمة من حيث أن لها دولة أي من حيث أن ثمة هيئة تمثلها تجمع كافة
السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، ولقد ترتب علي التطور الذي شهدته البشرية
اختلاف طبيعة الكيانات الإنسانية الكبرى فأصبح الوطن هو وحدتها الأساسية مع إمكانية
تحالف وائتلاف مجموعة من الأوطان، وكل وطن يتعايش فيه مجموعة من الأعراق ومعتنقي
الديانات المختلفة، وهذا الوضع هو أمر جديد ولا يمكن إعمال ما ابتدعه السلف من
أساليب التعامل والعلاقات بين الكيانات الإنسانية في العصور الوسطي عليه، لذلك فينبغي
استنباط وبيان القواعد والأسس المتسقة مع مقاصد الدين العظمى وتعاليمه الأساسية
ومنظومات قيمه وسننه والتي تمكن المسلم من التعايش مع تلك الكيانات، فالمسلم الذي
يعيش منفردا في بلد علماني مثلا عليه أن يلتزم بما هو مطلوب منه كفرد مسلم وألا
يحمل نفسه ما لا طاقة له به مما لا تطالب به إلا جماعة أو أمة من الإسلاميين،
فعليه أن يحاول تحقيق المقصدين الدينيين الأول والثاني وأن يقدم لهم المثل الأعلى
للكمال الإسلامي وبذلك يكون أمة وحده، وكذلك الأمر بالنسبة إلي أقلية من المسلمين
تحيا في ظروف مشابهة، وإن كثيرا من المتاعب التي يلاقيها المسلمون الآن هي بسبب عدم
وجود صياغة دقيقة محكمة تمكنهم من التعامل مع تلك الأوضاع المستجدة وليس لدى
الكهنوت إلا ما ورثوه عن أسلافهم من أساليب التعامل العدوانية والتي لن تجدي إلا
في توحيد البشرية جمعاء ضد المسلمين، فما دام المسلم يعيش في بلد علماني لا يضطهد
فيه في دينه ولا تنتهك حقوقه وتتوفر له فيه حرية العقيدة والعبادة والعمل والكسب
واحترام كرامته كإنسان فإن عليه ألا يجعل من نفسه حربا علي البلد الذي آواه وكفل
له كل ذلك، وعليه أن يدعو الناس إلى الإسلام بالأخلاق الحسنة والتفوق في شتى
المجالات وبالسلوك الحميد الرفيع الذي يدفع الناس إلى التأسي به، والمقصود بالحكمة
هنا هو أن يراعي أفضل السبل اللازمة للدعوة، وهو مكلف بإعمال كل ملكاته والإفادة
من كل خبرات غيره وخبراته وبذل كل ما هو في وسعه لمعرفتها وإلا فإن عليه وزر من
صدهم عن سبيل الله بأفعاله أو بسوء اختياره.
وقد يكون المسلم مواطناً في بلد يشكل فيه
المسلمون أغلبية عددية ولكنهم لا يشكلون أمة حقيقية ولا يوجد لديهم كيان أو هيئة
من أولى الأمر الحقيقيين تتولى تسيير أمورهم وفقاً لنسق التعاليم الخاص بالأمة الإسلامية
والذي يجعل منها أمة فائقة داعية الي الخير قائمة بالقسط ومجسدة لتعاليم الإسلام،
وهذا هو واقع الحال فى كل ما يسمى بالدول الإسلامية الآن، ولكن هذا لا يعطى للمسلم
الحق في الخروج علي الناس أو ترويعهم أو محاولة حملهم على الالتزام بما يرى هو أنه
صحيح الدين فإن كل ذلك ممنوع منعا باتا في الإسلام ومن يفعل ذلك ما له من نصير،
كما أن معظم الناس لا يعرفون شيئا عن صحيح الدين بل إن المؤسسات الكهنوتية الرسمية
هي أجهل شيء بالدين الحقيقي ومقاصده العظمى، والمسلم بالفطرة يفوقهم إيمانا وتقوى،
ولقد تجاوز الناس في بعض الأقطار ما يؤمن به هؤلاء من صيغ جامدة للدين، فعلى
المسلم في مجتمع كهذا أن يلتزم بكل ما هو ممكن من أنساق التعليمات الإسلامية وألا
يجعل من نفسه حربا على شعبه أو وطنه أو أمته أو عاملا من عوامل تقويض بنيانها.
ومن المستحيل الآن محاولة جمع المسلمين
في كيان سياسي واحد على مستوى العالم لأسباب لا حصر لها، وأية محاولة لتحقيق ذلك
لن تؤدى إلا إلى القضاء علي المسلمين واستعبادهم لأعدائهم، وعلى المسلمين أن
يعلموا أن تجربة صلاح الدين لم تكن التجربة المثلي ولن يسمح أحد بتكرارها، فلن
يسمح أحد بعد الخروج من ظلمات العصور الوسطي أن يقوم أحد الجنرالات بغزو بلد آخر
وفرض مذهبه على الناس فيه وإبادة المخالفين في المذهب أو الدين تحت أية حجة من
الحجج أو ذريعة من الذرائع كما فعل صلاح الدين مع الشيعة المصريين مثلا، وإذا ما
حاولت دولة تزعم أنها إسلامية الاعتداء على دولة أخرى مجاورة بحجة العمل على توحيد
المسلمين فعلى كل مسلم فى الدولة المعتدى عليها أن يدافع عن وطنه، ذلك لأن الله
تعالى لا يحب المعتدين، كما أن الغاية عنده لا تبرر الوسيلة، بل إن مجال اختبار
الناس وابتلائهم هو في مدى التزامهم بالسنن والوسائل التي شرعها لهم، وهو لم يجعل
أبداً من القتال وسيلة مشروعة لتوحيد المسلمين وإنما شرعه لرد عدوان المعتدين
ولتأديب أهل البغي.
فالآية تأمر المسلم بألا يعتدي علي من
يخالفه في الدين أو في المذهب، بل إن الآية تحثه علي البر والإقساط إلي من خالفه
في الدين، فالدين لا يمكن أن يكون وسيلة لتأجيج نيران الحروب وتكريس البغي والظلم
والعدوان أو إضفاء الشرعية عليها، ولكنه وسيلة لنشر الأمن والسلام وتحقيق السعادة
للبشرية جمعاء.